من نحن ؟ | معرض الصور | الاقتراحات | التواصل معنا
Loading ... please Wait
مشاهدة Image
- العقيدة-ردُّ التحريف عن مبادئ الدِّين الحنيف
المكتبة > العقيدة > ردُّ التحريف عن مبادئ الدِّين الحنيف
عدد المشاهدات : 13
تاريخ الاضافة : 2019/01/09
المؤلف : أبي عبد الرحمن الصومالي


ردُّ التحريف عن مبادئ الدِّين الحنيف

الكتاب
radd_tahref.pdf

الدروس
أ) الفصل الأول مبادئ أساسية

(الفصلُ الأول): مبادئ أساسية
(الأول) الإيمان والكُفر ضدّان:
س1) ما الدليلُ على أنّ الإيمان والكُفرَ الأكبر ضدَّان لا يجتمعان في قلب إنسان؟
جـ1) إنَّ الله تعالى بيّن أنّ المُؤمنين هم الّذين يُؤمنُون بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر.
قال تعالى: ﴿آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (البقرة:285)
وبيّن كذلك أنّ الكافرين هم الّذين لا يُؤمنُون بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر.
قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالا بَعِيدًا﴾ (النساء:136)
فوصف الله تعالى المُؤمنين بضدّ ما وصف به الكافرين، فدلّ ذلك على أنّ الإيمان والكُفر الأكبر ضدّان، ولا يجتمعان في قلب إنسان.
س2) هل اختلف المسلمون في أنَّ الإيمان والكُفر الأكبر ضدّان؟
جـ2) لا خلاف بين المسلمين في أنَّ الإيمان والكُفر الأكبر ضدّان متباينان. وأنَّ من صحَّ إيمانُهُ في الظاهر، فقد برِئ من الكفر الأكبر في الظاهر، و من ثبت كُفرُهُ الأكبر في الظاهر، فقد برِئ من الإيمان في الظاهر. قال اللهُ تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (التغابن:2)
فالكتابُ والسنّةُ يشهدان على أنّ النّاس في أحكام الدُنيا إمّا مُؤمنُون وإمّا كافرُون، والإجماعُ مُنعقدٌ على ذلك. وأُقيمتْ أحكامُ الدِّين على هذا الأصل، فبيَّنت الشريعة أحكامَ تعامُل أهل الإيمان مع أهل الكُفر، في السلم والحرب، وفي النكاح والذبائح والتوارث، وغير ذلك.
س3) ما الدليلُ على أنَّهُ ليس في الدُنيا إلا دينان، إيمانٌ وإسلامٌ، أو كُفرٌ وشركٌ؟
جـ3) قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرُون: 1-6).
فدلّ ذلك على أنّ توحيد العبادة لله وحدهُ هو دين الأنبياء والمُؤمنين، وأنّ الشرك في عبادة الله دين المُشركين.
س4) هل الكفارُ أصنافٌ؟ وما الذي يجمعُهم؟
جـ4) الكفارُ أصنافٌ، ويجمعُهم أنّهم على دين واحد، هو "الكفرُ بالله"، أيْ عدم الإيمان بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر. أو الإيمان ببعض هذه الأصُول والكُفر ببعضها.
س5) اذكُرْ الأصناف الداخلة في مُسمّى "الكافرين"؟
جـ5) من الأصناف الداخله في مُسمّى "الكافرين"، ما يأتي:
(الأول) كُلُّ من لم تبلُغْهُ الدعوة إلى الإيمان بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر، وكان على الكُفرِ الأكبر، عابدًا لغير الله. وكُفرُهُ كُفرُ جهلٍ. وجهلُهُ لا يجعلُهُ مؤمنا بالله، لأنَّهُ لم يعلمْ بالإيمان ولم يعتقد به.
ولو كان مثل هذا مُؤمنا بالله، ما اقتصر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في تعريفه للإيمان، على قوله: "أنْ تُؤمن بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر"، في الحديث الصحيح لما سألهُ جبريل عليه السلام قائلا: "فأخبرني ما الإيمان؟".
ولقال: "أنْ تُؤمن بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر، أو أن تجهل ذلك".
(الثاني) ويدخلُ في مُسمّى الكافرين، كُلُّ من بلغَتْهُ الدعوةُ إلى الإيمان فردَّها، تقليدا للرُّؤساء والأكابر، الذين قال اللهُ عنهم: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾ (الفرقان:44).
ومنهم من تبيّنَ لهُ الحقُّ فردَّهُ، واعتقد خلافه، بتأويل باطل من تزيين الشيطان كالسبئيّة الّذين اعتقدُوا بألُوهية عليّ رضي اللهُ عنه، فحرَّقهم، وأمثالهم كالباطنية والإسماعيلية والغُرابية، وغيرهم، من الكفرة النَّاطقين بالشهادتين، الزاعمين أنّهم على الإيمان الصحيح.
(الثالث) ويدخلُ في مُسمّى الكافرين، كُلُّ من بلغَتْهُ الدعوةُ إلى الإيمان فأنكرَها وردَّها استكبارا، وكُفرُهُ كُفْرُ إباء واستكبار. ومن هؤلاء إبليس اللعين، الذي قال اللهُ عنه: ﴿إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾. (البقرة:34)
(الرابع) ويدخلُ في مُسمّى الكافرين، كُلُّ من بلغَتْهُ الدعوةُ إلى الإيمان فشكَّ في صحتها وتردّد بين التكذيب والتصديق، وكُفرُهُ كُفْرُ شكٍّ.
قال اللهُ تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ (الحجرات:15).
(الخامس) ويدخلُ في مُسمّى الكافرين، كُلُّ من بلغَتْهُ الدعوةُ إلى الإيمان فأعرض عنها، لم يُصدِّقها ولم يُكذِّبها. وكُفرهُ كُفرُ إعراض.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ﴾ (الأحقاف:3)
(السادس) ويدخلُ في مُسمّى الكافرين، كُلُّ من بلغَتْهُ الدعوةُ إلى الإيمان فأظهر القبُول والانقياد، وأبطن الانكار والعداوة، وكُفرُهُ كُفْرُ نفاق.
س6) هل هُناك من هو على الكُفر الأكبر، ويأمُرُ الشرعُ بأن يُعاملَ كالمُسلِم؟
جـ6) لا، إلا المُنافق المُظهر لقبُول الحقِّ، فهذا كالمسلم في أحكامِ الدُنيا، ما دام يُخفِيْ كُفره. أمّا إذا أظهر الكفر وأصرَّ عليه فقد صار من المُرتدِّين.
س7) هل اختلف المُسلمُون في أنَّ الشركَ الأكبر مُخرجٌ من الملّة؟ واذكُرْ بعض أدلّة المسألة؟
جـ7) هي مسألة جلية، لم يختلفْ فيها أهلُ الإسلام، لوضُوح أدلّتها. وأذكُرُ كمثال ما يأتي:
1) قولهُ تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُون﴾ ..إلى قوله: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرون:1-6). ففيها:
= أنّ العابد لغير الله ليس على دين الإسلام.
= وأنّهُ كافرٌ بالله عند الله وعند المُسلمين.
= وأنَّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ما كفّر قومهُ إلا لشركهم بالله.
2) قولهُ تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (التّوبة:31) ففيها:
= أنّ أهل الكتاب صارُوا كُفارا لما أشركُوا بالله الشرك الأكبر.
= وأنّهُ لم ينفعهم الانتساب إلى دين الإسلام، وإلى كتب الله.
= وأنَّ المسلمين لا ينفعهم الانتساب إلى دين الإسلام، وإلى القرآن إذا أشركُوا بالله.
3) قولهُ تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ (الممتحنة:4) ففيها:
= أنّ ملّة إبراهيم عليه السلام والأنبياء هي البراءة ممن يعبُدُ غير الله، وإظهار العداوة والبغضاء لهم.
= وأنّ البراءة منهم مُستمرّة حتى يتركُوا الشرك بالله. قال الإمام الطبري: (يقولُ: حتى تُصدِقوا بالله وحده، فتُوحدوه، وتُفردوه بالعبادة.)
= وأنَّ من عكس المسألة، فوالى المُشركين، وتبرّأ من أهل التّوحيد، ليس على ملّة الأنبياء، وإن ادّعى ذلك.
س8) إذا أظهر الإنسانُ الإسلامَ والشرك الأكبر في آن واحد، هل يُلحقُ بالمسلمين أم بالمشركين؟
جـ8) هذا الكلامُ مُتناقضٌ، فليس هُناك مُشركٌ، مظهرٌ لشركهِ، ثُمَّ هُو مظهرٌ للإسلام في نفس الوقت. ومن أظهر الشّرك الأكبر، وهو يُظهرُ بعض شعائر الإسلامِ، لا يُقالُ: إنَّهُ مُظهرٌ للإسلامِ بل يُقالُ إنَّهُ مُظهرٌ للشّركِ. والمُظهرُ للإسلامِ إمَّا أن يكُون مُؤمنا ظاهراً وباطناً، وإمَّا أن يكُون مُؤمناً في الظّاهر، كافراً في الباطن، وهو المعرُوف بالمُنافق في ميزان الشّرع.
والَّذي يُظهرُ الشرك الأكبر، وإن كان من أعبد النَّاس، وأكثرهم اجتهاداً في الطّاعات، فليس بمُظهرٍ للإسلام، ولا يجُوزُ الاختلاف في حُكمه، بعد أن قال اللهُ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (الزمر:65).
وقد كان أهلُ الأوثان يُظهرُون بعض شعائر الإسلام، من بقايا دين إبراهيم عليه السّلام، وأهلُ الكتاب كانُوا ولا يزالون مُظهرين لشعائر من دين الرسّل، وأهلُ الرّدَّة كانُوا مظهرين لشعائر ثابتة في القرآن، ومع ذلك لم يكنْ أهلُ الإيمان مُنخدعين بهذه الشّعائر، لعلمهم بأنَّ الإسلام هو الدّينُ الخالص، الّذي لا شرك فيه.
س9) هل يُشترطُ الاستحلال في الشرك الأكبر؟
جـ9) الكُفرُ الأكبر يكُون اعتقاداً، فمن اعتقد آلهة مع الله، أو كذَّب الرسُول بقلبه أو القرآن أو الملائكة أو البعث والحساب، فهو كافرٌ عند الله، وإن أخفى كفرهُ عن النّاس.
قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا﴾ (الفتح:13)
ويكُونُ شكّاً، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ (الحجرات:15). وقال: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ أيْ شكٌّ.
ويكُونُ قولاً، قال تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ﴾ (التّوبة:74)
ويكُونُ عملاً، كمن سجد للصنم، أو ألقى المُصحف الكريم في النجاسة، فهو يكفُرُ بفعله وإن زعم أنّهُ لم يستحلّ. واستحلالُ المحرّمات كُفرٌ مُستقلٌّ بذاته.

الأول) الإيمان والكُفر ضدّان)

(الفصلُ الأول): مبادئ أساسية
(الأول) الإيمان والكُفر ضدّان:
س1) ما الدليلُ على أنّ الإيمان والكُفرَ الأكبر ضدَّان لا يجتمعان في قلب إنسان؟
جـ1) إنَّ الله تعالى بيّن أنّ المُؤمنين هم الّذين يُؤمنُون بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر.
قال تعالى: ﴿آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ (البقرة:285)
وبيّن كذلك أنّ الكافرين هم الّذين لا يُؤمنُون بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر.
قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالا بَعِيدًا﴾ (النساء:136)
فوصف الله تعالى المُؤمنين بضدّ ما وصف به الكافرين، فدلّ ذلك على أنّ الإيمان والكُفر الأكبر ضدّان، ولا يجتمعان في قلب إنسان.
س2) هل اختلف المسلمون في أنَّ الإيمان والكُفر الأكبر ضدّان؟
جـ2) لا خلاف بين المسلمين في أنَّ الإيمان والكُفر الأكبر ضدّان متباينان. وأنَّ من صحَّ إيمانُهُ في الظاهر، فقد برِئ من الكفر الأكبر في الظاهر، و من ثبت كُفرُهُ الأكبر في الظاهر، فقد برِئ من الإيمان في الظاهر. قال اللهُ تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (التغابن:2)
فالكتابُ والسنّةُ يشهدان على أنّ النّاس في أحكام الدُنيا إمّا مُؤمنُون وإمّا كافرُون، والإجماعُ مُنعقدٌ على ذلك. وأُقيمتْ أحكامُ الدِّين على هذا الأصل، فبيَّنت الشريعة أحكامَ تعامُل أهل الإيمان مع أهل الكُفر، في السلم والحرب، وفي النكاح والذبائح والتوارث، وغير ذلك.
س3) ما الدليلُ على أنَّهُ ليس في الدُنيا إلا دينان، إيمانٌ وإسلامٌ، أو كُفرٌ وشركٌ؟
جـ3) قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرُون: 1-6).
فدلّ ذلك على أنّ توحيد العبادة لله وحدهُ هو دين الأنبياء والمُؤمنين، وأنّ الشرك في عبادة الله دين المُشركين.
س4) هل الكفارُ أصنافٌ؟ وما الذي يجمعُهم؟
جـ4) الكفارُ أصنافٌ، ويجمعُهم أنّهم على دين واحد، هو "الكفرُ بالله"، أيْ عدم الإيمان بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر. أو الإيمان ببعض هذه الأصُول والكُفر ببعضها.
س5) اذكُرْ الأصناف الداخلة في مُسمّى "الكافرين"؟
جـ5) من الأصناف الداخله في مُسمّى "الكافرين"، ما يأتي:
(الأول) كُلُّ من لم تبلُغْهُ الدعوة إلى الإيمان بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر، وكان على الكُفرِ الأكبر، عابدًا لغير الله. وكُفرُهُ كُفرُ جهلٍ. وجهلُهُ لا يجعلُهُ مؤمنا بالله، لأنَّهُ لم يعلمْ بالإيمان ولم يعتقد به.
ولو كان مثل هذا مُؤمنا بالله، ما اقتصر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في تعريفه للإيمان، على قوله: "أنْ تُؤمن بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر"، في الحديث الصحيح لما سألهُ جبريل عليه السلام قائلا: "فأخبرني ما الإيمان؟".
ولقال: "أنْ تُؤمن بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر، أو أن تجهل ذلك".
(الثاني) ويدخلُ في مُسمّى الكافرين، كُلُّ من بلغَتْهُ الدعوةُ إلى الإيمان فردَّها، تقليدا للرُّؤساء والأكابر، الذين قال اللهُ عنهم: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾ (الفرقان:44).
ومنهم من تبيّنَ لهُ الحقُّ فردَّهُ، واعتقد خلافه، بتأويل باطل من تزيين الشيطان كالسبئيّة الّذين اعتقدُوا بألُوهية عليّ رضي اللهُ عنه، فحرَّقهم، وأمثالهم كالباطنية والإسماعيلية والغُرابية، وغيرهم، من الكفرة النَّاطقين بالشهادتين، الزاعمين أنّهم على الإيمان الصحيح.
(الثالث) ويدخلُ في مُسمّى الكافرين، كُلُّ من بلغَتْهُ الدعوةُ إلى الإيمان فأنكرَها وردَّها استكبارا، وكُفرُهُ كُفْرُ إباء واستكبار. ومن هؤلاء إبليس اللعين، الذي قال اللهُ عنه: ﴿إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾. (البقرة:34)
(الرابع) ويدخلُ في مُسمّى الكافرين، كُلُّ من بلغَتْهُ الدعوةُ إلى الإيمان فشكَّ في صحتها وتردّد بين التكذيب والتصديق، وكُفرُهُ كُفْرُ شكٍّ.
قال اللهُ تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ (الحجرات:15).
(الخامس) ويدخلُ في مُسمّى الكافرين، كُلُّ من بلغَتْهُ الدعوةُ إلى الإيمان فأعرض عنها، لم يُصدِّقها ولم يُكذِّبها. وكُفرهُ كُفرُ إعراض.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ﴾ (الأحقاف:3)
(السادس) ويدخلُ في مُسمّى الكافرين، كُلُّ من بلغَتْهُ الدعوةُ إلى الإيمان فأظهر القبُول والانقياد، وأبطن الانكار والعداوة، وكُفرُهُ كُفْرُ نفاق.
س6) هل هُناك من هو على الكُفر الأكبر، ويأمُرُ الشرعُ بأن يُعاملَ كالمُسلِم؟
جـ6) لا، إلا المُنافق المُظهر لقبُول الحقِّ، فهذا كالمسلم في أحكامِ الدُنيا، ما دام يُخفِيْ كُفره. أمّا إذا أظهر الكفر وأصرَّ عليه فقد صار من المُرتدِّين.
س7) هل اختلف المُسلمُون في أنَّ الشركَ الأكبر مُخرجٌ من الملّة؟ واذكُرْ بعض أدلّة المسألة؟
جـ7) هي مسألة جلية، لم يختلفْ فيها أهلُ الإسلام، لوضُوح أدلّتها. وأذكُرُ كمثال ما يأتي:
1) قولهُ تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُون﴾ ..إلى قوله: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرون:1-6). ففيها:
= أنّ العابد لغير الله ليس على دين الإسلام.
= وأنّهُ كافرٌ بالله عند الله وعند المُسلمين.
= وأنَّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ما كفّر قومهُ إلا لشركهم بالله.
2) قولهُ تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (التّوبة:31) ففيها:
= أنّ أهل الكتاب صارُوا كُفارا لما أشركُوا بالله الشرك الأكبر.
= وأنّهُ لم ينفعهم الانتساب إلى دين الإسلام، وإلى كتب الله.
= وأنَّ المسلمين لا ينفعهم الانتساب إلى دين الإسلام، وإلى القرآن إذا أشركُوا بالله.
3) قولهُ تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ (الممتحنة:4) ففيها:
= أنّ ملّة إبراهيم عليه السلام والأنبياء هي البراءة ممن يعبُدُ غير الله، وإظهار العداوة والبغضاء لهم.
= وأنّ البراءة منهم مُستمرّة حتى يتركُوا الشرك بالله. قال الإمام الطبري: (يقولُ: حتى تُصدِقوا بالله وحده، فتُوحدوه، وتُفردوه بالعبادة.)
= وأنَّ من عكس المسألة، فوالى المُشركين، وتبرّأ من أهل التّوحيد، ليس على ملّة الأنبياء، وإن ادّعى ذلك.
س8) إذا أظهر الإنسانُ الإسلامَ والشرك الأكبر في آن واحد، هل يُلحقُ بالمسلمين أم بالمشركين؟
جـ8) هذا الكلامُ مُتناقضٌ، فليس هُناك مُشركٌ، مظهرٌ لشركهِ، ثُمَّ هُو مظهرٌ للإسلام في نفس الوقت. ومن أظهر الشّرك الأكبر، وهو يُظهرُ بعض شعائر الإسلامِ، لا يُقالُ: إنَّهُ مُظهرٌ للإسلامِ بل يُقالُ إنَّهُ مُظهرٌ للشّركِ. والمُظهرُ للإسلامِ إمَّا أن يكُون مُؤمنا ظاهراً وباطناً، وإمَّا أن يكُون مُؤمناً في الظّاهر، كافراً في الباطن، وهو المعرُوف بالمُنافق في ميزان الشّرع.
والَّذي يُظهرُ الشرك الأكبر، وإن كان من أعبد النَّاس، وأكثرهم اجتهاداً في الطّاعات، فليس بمُظهرٍ للإسلام، ولا يجُوزُ الاختلاف في حُكمه، بعد أن قال اللهُ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (الزمر:65).
وقد كان أهلُ الأوثان يُظهرُون بعض شعائر الإسلام، من بقايا دين إبراهيم عليه السّلام، وأهلُ الكتاب كانُوا ولا يزالون مُظهرين لشعائر من دين الرسّل، وأهلُ الرّدَّة كانُوا مظهرين لشعائر ثابتة في القرآن، ومع ذلك لم يكنْ أهلُ الإيمان مُنخدعين بهذه الشّعائر، لعلمهم بأنَّ الإسلام هو الدّينُ الخالص، الّذي لا شرك فيه.
س9) هل يُشترطُ الاستحلال في الشرك الأكبر؟
جـ9) الكُفرُ الأكبر يكُون اعتقاداً، فمن اعتقد آلهة مع الله، أو كذَّب الرسُول بقلبه أو القرآن أو الملائكة أو البعث والحساب، فهو كافرٌ عند الله، وإن أخفى كفرهُ عن النّاس.
قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا﴾ (الفتح:13)
ويكُونُ شكّاً، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ (الحجرات:15). وقال: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ أيْ شكٌّ.
ويكُونُ قولاً، قال تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ﴾ (التّوبة:74)
ويكُونُ عملاً، كمن سجد للصنم، أو ألقى المُصحف الكريم في النجاسة، فهو يكفُرُ بفعله وإن زعم أنّهُ لم يستحلّ. واستحلالُ المحرّمات كُفرٌ مُستقلٌّ بذاته.

الثاني) لا يُعذرُ بالجهل في أصْلِ الإيمان)

(الثاني) لا يُعذرُ بالجهل في أصْلِ الإيمان
س1) ما الدليلُ على أنَّ من أشرك بالله جاهلا، يستحقُّ أن يُوصف بالشرك؟
جـ1) إنَّ الله صرح بأنَّ الجهل صفة أهلِ الشركِ، فدلَّ ذلك على أنَّ من أشرك بالله جاهلا، يستحقُّ أن يُوصف بالشرك، بل دلَّ ذلك على أنَّ أهلَ الجهل من المشركين، كانُوا أكثرَ من أهلِ العلم والعناد. وإليك أدلّة القرآن:
1) ﴿فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الأعراف:30)
قال الإمام الطبري، في تفسير هذه الآية: "هذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أنّ الله لا يعذّب أحداً على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلاّ أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عناداً منه لربّه فيها، لأنّه لو كان كذلك لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضلّ وهو يحسب أنّه مهتد وفريق الهدى فرقٌ، وقد فرّق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية" (جامع البيان).
2) ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ (الكهف:104)
وقال الطبري في تفسيرها: يقولُ: هم الَّذين لم يكن عملهم الَّذى عملوه فى حياتهم الدنيا على هدى واستقامة، بل كان على جور وضلالة، وذلك أنَّهم عملوا بغير ما أمرهم الله به، بل على كفرمنهم به ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾
يقول: وهم يظنُّون أنَّهم بفعلهم ذلك لله مطيعون، وفيما ندب عباده إليه مجتهدون، وهذا من أدلّ الدلائل على خطأ قول من زعم أنَّه لايكفر بالله أحدٌ إلامن حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته، وذلك أنَّ الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الَّذين وصف صفتهم فى هذه الآية، أنَّ سعيهم الَّذى سعوا فى الدنيا ذهب ضلالا، وقد كانوا يحسبون أنَّهم محسنون فى صنعهم ذلك، وأخبر عنهم أنَّهم هم الَّذين كفروا بآيات ربِّهم.
ولوكان القول كما قال الَّذين زعموا أنَّه لايكفر بالله أحدٌ إلا من حيث يعلم، لوجب أن يكون هؤلاء القوم فى عملهم الَّذى أخبر الله عنهم أنَّهم كانوا يحسبون فيه أنَّهم يحسنون صنعه، كانوا مثابين مأجورين عليها، ولكنَّ القول بخلاف ما قالوا، فأخبر جلَّ ثناؤه عنهم أنَّهم بالله كفرة، وأنَّ أعمالهم حابطة".
3) ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (التّوبة:6)
قال الطبري: ﴿ذلكَ بأنَّهُمْ قَوُمٌ لا يَعْلَمُونَ﴾ يقول: تفعل ذلك بهم من إعطائك إياهم الأمان، ليسمعوا القرآن، وردّك إياهم إذا أبوا الإسلام إلى مأمنهم، من أجل أنهم قوم جهلة لا يفقهون عن الله حجة ولا يعلمون ما لهم بالإيمان بالله لو آمنوا وما عليهم من الوزر والإثم بتركهم الإيمان بالله".
4) (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (الْبَيِّنَةُ :1). فسمّاهم مشركين قبل مجيء الرسُول.
5) ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (الأعراف: 172-173)
قال القرطبي: "بمعنى لست تفعل هذا ولا عُذر للمقلّد في التوحيد" الجامع لأحكام القرآن
6) ولقوله تعالى: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ (النازعات: 17).
وقوله: ﴿إنّهُ كان من المُفسدين﴾ (القصص:4)
وقوله: ﴿يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ﴾ (طه:39).
وفيه دليلٌ على أنّ فرعون كان عدواً لله، وطاغية، ومُفسداً قبل مجيء موسى إليه بالدعوة الإسلامية.
وهذا يدلُّ على أنَّ الواقع في الشرك الأكبر العابد لغير الله، كافرٌ بالله إن كان مُعاندًا أو كان جاهلا. لأنَّ المُؤمن هو من دُعي إلى الإيمان بالله وملائكته وكُتبه ورُسله واليوم الآخر، فاستجاب وآمنَ. فمن لم تبلغهُ الدعوة إلى الإيمان فهو كافرٌ جاهلٌ، ومن بلغتهُ فردّها، فهو كافرٌ مُكذِّبٌ.
س2) ما الدليلُ على أنَّهُ لا يجُوزُ أنْ يُوصف الإنسانُ بالإيمان والإسلام لله، وهو على الشرك الأكبر وعبادة غير الله؟.
جـ 2) لا يجُوزُ ذلك لأدلّة كثيرة منها:
1) قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ إلى قوله ﴿لكم دينكم ولي دين﴾ (الكافرُون: 1-2)
فدلّت الآيةُ على أنَّ اسم "الكافر" هو الإسم الشرعي لمن يعبُدُ غير الله. وأنَّ التوحيد والشرك الأكبر ضدّان لا يجتمعان في قلب، فمن ثبت أنَّهُ على الشرك الأكبر فقد ثبت أنّه خارجٌ عن الإيمان والإسلام.
2) وقوله تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ (الممتحنة:4)
= قال الإمامُ الطبري في التفسير: وقوله: ﴿إذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ﴾
يقول: حين قالوا لقومهم الذين كفروا بالله، وعبدوا الطاغوت: أيها القوم إنا برآء منكم، ومن الذين تعبدون من دون الله من الآلهة والأنداد.
وقوله: ﴿كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ العَدَوَاةُ والبَغْضَاءُ أبَدا حتى تُؤمِنُوا باللَّهِ وَحْدَهُ﴾ يقول جلّ ثناؤه مخبرا عن قيل أنبيائه لقومهم الكفرة:
كفرنا بكم، أنكرنا ما كنتم عليه من الكفر بالله وجحدنا عبادتكم ما تعبدون من دون الله أن تكون حقا. وظهر بيننا وبينكم العدواة والبغضاء أبدا على كفركم بالله، وعبادتكم ما سواه، ولا صلح بيننا ولا هوادة، حتى تؤمنوا بالله وحده، يقول: حتى تصدّقوا بالله وحده، فتوحدوه، وتفردوه بالعبادة. ـ اهـ
س3) اذْكُر من أقوال العُلماء ما فيه تصريحٌ بتكفير المشرك الجاهل الذي لم تبلغهُ الرسالة؟
جـ3) من ذلك ما يأتي:
1) قال الإمام منصور بن محمّد السمعانى (489ﻫ) في "قواطع الأدلَّة":
"إنَّ الاختلاف بين الأمَّة على ضربين، اختلاف يوجب البراءة ويوقع الفرقة ويرفع الألفة، واختلاف لايوجب البراءة ولايرفع الألفة، فالأول كالاختلاف فى التَّوحيد.
قال: من خالف أصله كان كافراً وعلى المسلمين مفارقته والتبرُّؤ منه وذلك لأنَّ أدلَّة التوحيد كثيرة ظاهرة متواترة قد طبقت العالم، وعمَّ وجودها فى كلِّ مصنوع فلم يعذر أحدٌ بالذهاب عنها، وكذلك الأمر فى النُّبوة لقوَّة براهينها، وكثرة الأدلَّة الباهرة الدالَّة عليها، وكذلك كلُّ ما كان من أصول الدِّين، فالأدلَّة عليها ظاهرة باهرة، والمخالف فيه معاند مكابر، والقول بتضليله واجب، والبراءة منه شرع".
2) قال الشيخ الإمام الحسين بن مسعود البغوي (ت: 516ﻫ):
"فيه دليل على أنَّ الكافرالَّذى يظنُّ أنَّه فى دينه على الحقِّ والجاحد والمعاند سواءُ".
وقال فى" شرح السنَّة": "العلوم الشرعية قسمان: علم الأصول، وعلم الفروع، أما علم الأصول، فهو معرفة الله سبحانه وتعالى بالوحدانية، والصفات، وتصديق الرسل، فعلى كل مكلف معرفته، ولا يسع فيه التقليد لظهور آياته، ووضوح دلائله،
قال الله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ (محمد: 19).
وقال الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ (فصلت: 53)،
3) وقال الإمامُ ابن تيمية: وكذلك أخبر عن هود أنه قال لقومه‏: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ﴾‏ (‏هود‏: 50‏)‏
فجعلهم مفترين قبل أن يحكم بحكم يخالفونه؛ لكونهم جعلوا مع الله إلها آخر.
فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة؛ فإنه يشرك بربه ويعدل به ويجعل معه آلهة أخرى ويجعل له أندادا قبل الرسول ويثبت أن هذه الأسماء مقدم عليها وكذلك اسم الجهل والجاهلية يقال‏: جاهلية وجاهلا قبل مجيء الرسول وأما التعذيب فلا" ـ اهـ
4) وقال الإمام "ابن القيم" (ت: 751ﻫ) فى طريق الهجرتين: "والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله واتّباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافرٌ جاهلٌ فغاية هذه الطبقة أنّهم كفّار جهّال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفّاراً، فإنّ الكافر من جحد توحيد الله وكذّب رسوله إما عناداً وإما جهلاً وتقليداً لأهل العناد" (طريق الهجرتين: 411)
وقال أيضاً: في قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (البقرة: 28).
"فهذا استدلال قاطع على أنّ الإيمان بالله أمر مستقرّ في الفطر والعقول وأنّه لا عذر لأحد في الكفر به البتة" (بدائع التفسير)،

5) وقال الإمام "الصنعاني"(1059ﻫ - 1182ﻫ) في تطهير الاعتقاد: بعد أن بيّن أنّ القبوريين مشركون:
"فإن قلت هم جاهلون أنّهم مشركون بما يفعلونه، قلتُ: قد خرّج الفقهاء في كتب الفقه، أنّ من تكلّم بكلمة الكفر كفر وإن لم يقصد معناها وهذا دالٌ على أنّهم لا يعرفون حقيقة الإسلام ولا ما هية التوحيد فصاروا حينئذ كفّاراً كفراً أصلياً"، فإن قلتَ: فإذا كانوا مشركين وجب جهادهم والسلوك فيهم ما سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشركين؟ قلتُ: إلى هذا ذهب أهل العلم فقالوا: يجب أولاً دعاؤهم إلى التوحيد"
6) وقال الإمام محمد بن عبد الوهاب (1115- 1206ﻫ): "فإنّك إذا عرفت أنّ الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظنّ أنّها تقرّبه إلى الله زلفى كما ظنّ المشركون" (كشف الشبهات).
7) وقال سيّد قطب، في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 40). "وكونهم لا يعلمون لا يجعلهم في دين الله القيّم فالذي لا يعلم شيئاً لا يمكن الاعتقاد فيه ولا تحقيقه، فإذا وجد ناسٌ لا يعلمون حقيقة الدين لم يعد من الممكن عقلاً وواقعاً وصفهم بأنّهم على هذا الدين، ولم يقم جهلهم عذراً لهم يسبغ عليهم صفة الإسلام ذلك أنّ الجهل مانعٌ للصفة ابتداء، فاعتقاد شيء فرع عن العلم به، وهذا منطق العقل والواقع، بل منطق البداهة الواضح"(اﻫ)
س4) هل ثبت عن أحدٍ من علماء السلف القول بأنّ الكافر الجاهل مَعذُورٌ عند الله؟
جـ4) لم يُنقَلْ ذلك عن أحد من السلف إلا عبيد الله العنبري والجاحظ المعتزلي، وذُكر أنّ عُبيد الله تاب من ذلك، وذُكر أيضا أنَّهُ لم يقصُد مسألة التّوحيد والرسالة، بل مسائل الصفات والقدر والرؤية وأمثالها.
وأمّا الجاحظ فقد صرح أنّ الكفار الجهال كُفارٌ في أحكام الدُنيا، ولكنّهم معذُورُون في الآخرة، وقد كفّرهُ بعضُ العُلماء بذلك.
وقال الإمام أبو محمَّد ابن قدامة الحنبلى (ت: 620ﻫ) فى "روضة النَّاظر":
"الحقُّ فى قول واحد من المجتهدين، ومن عداه مخطئ سواء كان فى فروع الدِّين أو أصوله، لكنَّها إن كان فى فروع الدِّين مما ليس فيه دليل قاطع من نصٍّ أو إجماع فهو معذور غير آثم وله أجرٌ على اجتهاده".
قال: "وزعم الجاحظ أنَّ مخالف ملَّة الإسلام إذا نظر فعجز عن درك الحقِّ فهومعذور". وقال عبيد الله العنبرى: "كلُّ مجتهد مصيب فى الأصول و الفروع جميعا" وهذه أقاويل باطلة، أمَّا الَّذى ذهب إليه الجاحظ فباطل يقينا وكفرٌ بالله تعالى، وردٌ عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
فإنَّا نعلم قطعا أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمر اليهود والنَّصارى بالإسلام واتِّباعه، وذمَّهم على إصرارهم، ونقاتل جميعهم، ونقتل البالغ منهم، ونعلم أنَّ المعاند العارف مما يقل، وإنَّما الأكثر مقلَّدة إعتقدوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا معجزة الرَّسول وصدقه، والآيات الدالَّة فى القرآن على هذا كثيرة كقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ (ص: 27).
﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (فصلت: 23).
﴿وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ﴾ (الجاثية: 24).
وقوله: ﴿وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ (المجادلة: 18).
﴿إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (الأعراف: 30).
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ (الكهف: 103-105).
س5) لماذا يقُولُ بعضُ الشيُوخ المعاصرين، لا يكفُرُ الجاهلُ بجحده أصلا من أصُول الدِّين، قبل إقامة الحُجّة الرسالية عليه؟
جـ5) الّذين يقُولُون: "لا يكفُرُ الجاهلُ بجحده أصلا من أصُول الدِّين، قبل إقامة الحُجّة الرسالية عليه"، أخطأُوا في فهم بعض أقوال العُلماء، فوضعُوها في غير مواضعها، وردُّوا بها النصُوص القرآنية الثابتة، فضلُّوا.
إنَّ أهل العلمِ الّذين ذكرُوا أنَّهُ "لا يكفُرُ الجاهلُ بجحده أصلا من أصُول الدِّين، قبل إقامة الحُجّة الرسالية عليه"، لم يكُنْ مُرادُهم العُمُوم، بل كانُوا يُريدُون نوعا من المسائل المتعلّقة بالعقيدة، مما هُو دُون التَّوحيد والرسالة، فإنَّ مسائل الدِّين على أربعة أقسام:
(القسم الأول)
وهو ما لا يختلفُ فيه المسلمون من مسائل الإيمان، ولم يستحقُّوا اسم "المسلمين" إلا بها، وإنَّما يختلفُ فيها أهلُ الإسلام وأهلُ الملل الكافرة. كمسألة التَّوحيد والبراءة من الشرك الأكبر، ومسألة رسالة مُحمّد صلى الله عليه وسلم ، وأنَّ القرآن كتابُ الله، وأنَّ البعث بعد الموت حقٌّ. وهذه المسائل لم يختلفْ فيها المسلمُون، ومن أنكرها عنادا أو جهلا لا يكُونُ من أهلِ الإسلام.
(القسم الثاني)
وهو ما وقع فيه اختلاف بين المسلمين من مسائل اعتقادية، مع ظُهُورِ أدلّتها، فخالفها أقوامٌ، فسُمُّوا بـ"الفرق المُبتدِعة"، كمسألة الرؤية، وتأويل الصفات، والتكفير بالذُنُوب، وأفعال العباد، والصحابة، وغيرها. وهي التي يقُولُ عنها العُلماءُ: "لا ينبغي تكفير جاهلها قبل إقامة الحُجّة عليه"، أو يقُولُون: "يُعذرُ بالجهل في مسائلُ الأصُول".
ولنأخُذ كلام الإمام ابن تيمية كمثال يُفرِّقُ بين هذين القسمين:
بيّن الإمام ابن تيمية في قوله السابق، أنّ اسم المشرك يثبُتُ قبل الرسالة، وكذلك اسم الجهل والجاهلية، واستدلّ بالكتاب والسنَّة، فمن عبد غير الله فهو مُشركٌ عنده، وإن لم يأته من يُقيمُ عليه الحجّة.
وصرح الإمام في موضع آخر أنّ المسلم لا يكفّر ابتداء إذا جحد مقالة من المقالات الخفيّة. التى يُمكنُ أن تخفى عليه أمّا إذا جحد التوحيد أو الصلاة أو الحجّ أو غيره مما هو معلُوم من الدين بالضرُورة، فإنّه يكفّر وهذا نصه:-
"وهذا إن كان في المقالات الخفية فقد يقال فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجّة التي يكفّر تاركها. ولكن هذا يصدر عنهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعث بِها وكفّر من خالفها مثل: عبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم. فإنّ هذا أظهر شعائر الإسلام. ومثل إيجاب الصلوات الخمس وتعظيم شأنها ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر. ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين". (اﻫ)
فبيّن هُنا أنّ من المسائل ما هو خفيٌّ، لا يُدْركُهُ كُلُّ النّاس، مع أنّ لها أدلّة ثابتة، فيُقالُ عن مخالفها الجاهل: "إنَّهُ مخطئٌ ضال لم تقم عليه الحجّة التي يكفّر تاركها"، ثُمّ صرح بأنّ عبادة الله وحده لا شريك له، والنَّهي عن عبادة أحد سواه، ليست من هذه المسائل، وأنَّ من خالفها يصيرُ مُرتدّا.
وأولئك الشيُوخ المعاصرون، يُريدُون إدخال مسألة "التّوحيد"، في المسائل الخفية، والقول بأنَّ من أشرك بالله جاهلا لا يُكفَّرُ، ومن كفّرهُ فقد كفّر مُسلما، ولهُ عُقُوبة الخوارج. وهذا من أقبح تحريف الكلم عن مواضعه.
(القسم الثالث)
وهي مسائل لا يجهلُها من هو بين المُسلمين، سواء كانت مُتعلّقة بالعقيدة أو بالعمل، كمباني الإسلام، وكتحريم الظلم، والخمر، والميتة، وذوات المحارم، وغيرها. وعُرفت هذه المسائل بـ "المعلُوم من الدِّين بالضرُورة". ولا يُعذرُ أحدٌ بجهلها إلا حديث العهد بالإسلام، أو الناشئ ببادية بعيدة عن مظان العلم.
(القسم الرابع)
وهي ما يختلفُ فيه العُلماء من المسائل بعد هذه الأقسام الثلاثة، ويكُونُ من اجتهد فيها فأصاب لهُ أجران، ومن اجتهد فيها فأخطأ لهُ أجرٌ، كما ورد في الحديث. وهي كثيرة لا تنحصرُ.
س6) يقُولُ بعضُ الشيُوخ إنّ تقسيم المسائل الدينية إلى أصُول وفرُوع باطلٌ، ومسائلُ الدِّين كُلّها على درجة واحدة، وينسبُون ذلك إلى ابن تيمية، فما صحّةُ ذلك؟
جـ6) إن شريعة الله لها أصولٌ وفروعٌ، ولا يُجادل في ذلك إلاّ جاهلٌ لم يعرف حقيقة الشريعة. إذ أنّ مِن أوامر الشرع ما إن لم يأت به العبد لا يصحّ له إيمانٌ وإسلامٌ، ولا ينفعه العمل بجميع ما سوى ذلك من أحكام الشرع، فلذلك قيل إنّها "أصول الدِّين"، لأنّ العمل بالدِّين كلّه لا يصحُّ من العبد إذا لم يُحقِّق هذه الأصول التي هي: "الإيمان بالله -أي: عبادته وحده لا شريك له- وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشرّه". فإذا صحّ الإيمان بذلك صحّت صلاة العبدِ وزكاتُه وحجُّهُ وصيامُه وجهادُه، وأُثيب على اجتنابِ المحرّمات والكبائر.
قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ (إبراهيم: 24)
قال ابن عباس رضي الله عنهما قوله:﴿كَلِمَةً طَيِّبَةً﴾ شهادة أن لا إله إلاّ الله.
﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ﴾ وهو المؤمن، ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ﴾ يقول: لا إله إلا الله ثابت في قلب المؤمن، ﴿وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ يقول: يُرفَع بها عمل المؤمن إلى السماء. (تفسير ابن جرير الطبري).
ففسّر ابن عباس الأصل الثابت بالتوحيد الذي بالقلب، وفسّر الفرع بالأعمال.
والإمام ابن تيمية هو من أكثر العُلماء ذِكرًا لكون التَّوحيد -أي: عبادة الله وحده لا شريك له- أصلَ الدِّين. وإليك بعض أقواله من الفتاوى:
قال: "وهذا الأصل وهو التوحيد هو أصل الدِّين الذي لا يقبل الله من الأوّلين والآخرين ديناً غيره، وبه أرسل الله الرسل ونزّل الكتب" (الفتاوى:1/143)
وقال في (نفس المجلّد. ص: 310): "ودين الإسلام مبنى على أصلين، وهما‏:‏ تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله‏.‏ وأول ذلك ألا تجعل مع الله إلها آخر، فلا تحب مخلوقًا كما تحب الله، ولا ترجوه كما ترجو الله، ولا تخشاه كما تخشى الله".
والأصلُ الثاني‏:‏ أن نعبده بما شرع على ألسن رسله، لا نعبده إلا بواجب أو مستحبّ، والمباح إذا قصد به الطاعة دخل في ذلك‏".‏
وقال في صفحة (333): "فمعنا أصلان عظيمان، أحدهما‏:‏ ألا نعبد إلا الله‏.‏ والثانى‏:‏ ألا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة‏.‏ وهذان الأصلان هما تحقيق ‏(‏شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله‏)‏".
وهذا الذي يُقرِّره الإمام هو مما اتّفقت عليه الأمّة، فلم يظهر من علماء الإسلام في جميع الأجيال من يُسوِّي بين جميع الأوامر الإلهية ويقول:"التوحيد وإماطة الأذى عن الطريق على مرتبةٍ واحدةٍ". أو "أنّ الإيمان بالرسول كالصدقة على المسكين". أو "أنّ الإنسان يدخل في الإسلام إذا تصدّق أو صلّى أو حجّ أو أماط الأذى عن الطريق وهو مشركٌ بالله". وهذا من أفسد الأقوال، وهو لازم قولِ الذين ينكرون أنّ في الشريعة أُصولاً وفروعاً.
أمّا التقسيم الذي هو من أُصول أهل البدع فهو أنّ بعضهم قسَّم الشريعة إلى مسائل علمية، وهي مسائل العقيدة. ومسائل عملية، وهي فعل الواجبات وترك المحرّمات. فسمُّوا القسم الأول "الأصول" والقسم الثاني "الفروع"، ثم قالوا: إنّ الإنسان لا يُعذر إذا جهل مسائل الأصول، ويُعذر في الفروع.
وقد أخطأوا، لأنّ من مسائل العقيدة ما ثبت بأخبار الآحاد، وما اختلف فيها الصحابة من غير أن يُكفّر بعضهم بعضاً مثل:
= هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربَّه في الدنيا؟
= هل المعوّذتان من القرآن أم من الأذكار المشروعة؟
= هل البسملة آيةٌ من كل سورة أم لا؟
= هل تجوز القراءة بالضمّ في قوله تعالى: ﴿بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ﴾ (الصافات: 12)
ومن مسائل الفروع ما يكفُرُ مُنكرُها لكونها من المعلوم من الدِّين بالضرورة مثل: وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحجّ وبرّ الوالدين والجهاد. ومثل: تحريم القتل والزنا السرقة والخمر والميسر وغير ذلك.
وقد ردّ الإمام ابن تيمية تقسيم أهل البدع هذا، فظنّ بعضُ السذج أنّ أوامر الشرع على مرتبة واحدة في الأهمية، لا فيها أصول وفروع، فضلُّوا وأضلُّوا، ولو نظروا إلى أقوال الإمام التي قرّر فيها أنّ التوحيد أصلُ الدِّين ما وقعوا في هذا الخطأ الفاحش.

المسألة الأولى الإيمان والكُفر ضدّان

(المسألة الأولى) الإيمان والكُفر ضدّان
(أولاً) الإقرار والاعتراف:
جاء في رسالة "منهج جماعة الاعتصام": (الكفر ضد الإيمان، ويكون بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، أوالامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم.)
وجاء فيها:
(ونعتقد أن الكفرمنه أكبر وأصغر وأن الشرك والنفاق كذلك، وأن الظلم ظلمان والفسق فسقان والمعصية معصيتان والتولي عن الطاعة نوعان، ولا يُخرج من الملة من ذلك إلا الأكبر. ونعتقد أنّ القلب قد يجتمع فيه إيمان ونفاق أو كفر لا يخرجان من الملّة، وقد يجتمع فيه توحيد وشرك أصغر.)
فأثبتُوا:
1) أنّ الكفر ضدُّ الإيمان، أيْ: لا يُوجدْ أحدٌ على كُفرٍ أكبر، ثُمّ هو مُؤمنٌ بالله.
2) أنّ المسلم إذا وقع في الشرك الأكبر خرج من الملّة.
3) أنّ القلب قد يجتمع فيه إيمان وشرك أصغر، ولكن لا يجتمع فيه إيمان وشرك أكبر.
(ثانيا) التعطيل:
جاء في رسالتهم: (ونرى أنّ الصحيح من أقوال أهل العلم هو العذر بالجهل في أصول الدين وفروعه) ـ اهـ
فأثبتُوا:
1) أنّ من جهل أصلا من أصُولِ الدِّين معذُورٌ بالجهلِ، أيْ: لا يكفُرُ، ولا يُعاقبُ.
وأعظمُ أصُول الدِّين هو التَّوحيد، والرسالة، والملائكة، والكتاب، والبعث والحساب. فيكُونُ المعنى: "إنَّ الجاهل الذي لم يبلغهُ التّوحيد مثلا، ليس بكافر، وإن كان يعبُدُ غير الله"، وكذا من لم تبلغهُ باقِي الأصُول".
2) وأنَّ كُفرَ الجاهل ليس بضدّ الإيمان، لأنّهُ مُسلمٌ وهو يعبُدُ غير الله.
3) وأنّ الإيمان والكُفر الأكبر يجتمعان في قلب الجاهل.
فصار مذهبهم في هذه المسألة تناقُضا كمنْ قال:
1) الكُفرُ الأكبرُ ضدُّ الإيمان ويُخرجُ من الملّة مُطلقًا.
2) ليس الكُفرُ الأكبرُ بضدّ الإيمان مُطلقًا، ولا يُخرجُ من الملّة مُطلقًا".
فإن قيل لهم: "ألستم تقُولُون: أنّ الكُفرَ ضدُّ الإيمان، ولا يجتمعُ الإيمانُ والكفرُ الأكبرُ في قلب؟!!". يقُولُون: إنّهُ جاهلٌ. فالقاعدةُ الأولى لا تعملُ عندهم، لأنّ القاعدة الثانية تُناقضها، وتُزيلُ أثرها.
المذهبُ الحقُّ:
هو أنْ تقُولَ: "الكُفرُ الأكبرُ ضدُّ الإيمان ويُخرجُ من الملّة مُطلقًا".
وقد بيَّنتُ في "الفصل الأول" الأدلّة الدالّة على أنّ الواقع في الكُفرِ الأكبر جاهلا، كافرٌ بالله، وذكرتُ هناك ما قالهُ العلماء عن هذه المسألة. ومن أعظم التلبيس قولهم في رسالتهم في بيان الكُفر:
(ويكون بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، أوالامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم، وأصوله خمسة : كفر تكذيب، وكفر استكبار وإباء مع التصديق، وكفر إعراض، وكفر شك، وكفر نفاق) (أنظر درء التعارض لشيخ الأسلام إبن تيمية 1/242) (أنظر المدارج لابن القيم 1/337).
فإنّهُ يُوهم بأنّ كُفر الجهل ليس كفرًا، وأنّ الإمامين ابن تيمية، وابن القيّم على ذلك. وهذا باطلٌ، فقد ذكر الإمامان أنّ الذي لم يبلُغهُ الإيمان وهو على الشرك بالله، فهو من الكُفار، وجهلهُ لا يجعلُهُ مُؤمنا بالله، لخلو قلبه من الإيمان.
فأمَّا "ابن تيمية"، فقد صرح بذلك حين قال: "فاسم المشرك ثبت قبل الرسالة؛ فإنه يُشركُ بربه، ويعدل به، ويجعل معه آلهة أخرى، ويجعل له أندادا قبل الرسول، ويثبت أن هذه الأسماء مقدم عليها، وكذلك اسم الجهل والجاهلية يقال‏: جاهلية وجاهلا قبل مجيء الرسول وأما التعذيب فلا" اهـ
وأمّا "ابن القيّم" فهو القائل في "طريق الهجرتين": "والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله واتّباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافرٌ جاهلٌ، فغاية هذه الطبقة أنّهم كفّار جهّال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفّاراً، فإنّ الكافر من جحد توحيد الله وكذّب رسوله إما عناداً وإما جهلاً وتقليداً لأهل العناد" [طريق الهجرتين: 411].

الرابع) منْ عرفَ الإيمانَ عرفَ الكُفرَ)

(الرابع) منْ عرفَ الإيمانَ عرفَ الكُفرَ
س1) هل تكفيرُ الواقع في الكُفرِ الأكبر، خاصٌّ بأهل العلمِ؟.
جـ1) العلمُ درجاتٌ ومراتبٌ، فمن بلغهُ الإيمانُ بالله، فصدَّقهُ بقلبه، فهو من أهلِ العلم بالنسبة لمن جهل الإيمان واعتقد الكُفر. ولا يُوجد أحدٌ عرف حقيقة الإيمان، ثُم لا يعرفُ الإيمان من الكُفر، ويستوِي عندهُ المُؤمنُ والكافِرُ. فإنَّ من عرف حقيقة من الحقائق الثابتة، فإنَّهُ يعرفُ ضدَّها. ومن عرف طريقا يُوصِلُ إلى غاية مُعيّنة، عرفَ المُصيبَ السالك، الذي على الطريق الصحيح المُوصل إلى الغاية المُعيّنة، والمُخطئ الذي لم يُصب الطريق.
ومن عرفَ أنّ نجاتهُ في تحقيق التَّوحيد والاجتناب من الشركِ، فإنّهُ لا يشكُّ في أنَّ الذي يُنكرُ التّوحيدَ، وينصُرُ الشركَ، ليس على طريق النجاة، وأنّهُ هالكٌ لا محالة، إن مات على هذا. وكذلك من عرفَ أنّ نجاتهُ في تصديق النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ومُتابعته، فإنّهُ لا يشكُّ في أنَّ الذي يُعادي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ويُنكرُ مُتابعته، ليس على طريق النجاة، وأنّهُ هالكٌ لا محالة، إن مات على هذا. وهكذا كُلُّ حقائق العقيدة، وهذا من البديهيات.
وإذا كان المقصُود بأهل العلمِ، المجتهدين العالمين بالأصُول والفرُوع، فإنّ هؤلاء ينفردُون عن عامّة المسلمين بمعرفة مسائل كثيرة من المُكفّرات، أمّا ما هو ضدُّ الإيمان، كإنكار التّوحيد، والرسالة، والقرآن، والملائكة، والبعث بعد الموت، فإنّهم لا ينفردُون بعلم ذلك، ويُشاركهم عامّةُ المسلمين في معرفتها، لأنّهم لم يكتسبُوا صفة الإسلام إلا بقبُولها، والبراءة من ضدِّها. ولهذا قال العُلماء: "من لم يُكفّرْ الكافر فهو كافرٌ"، أو "منْ لم يعرف الكُفرَ لم يعرف الإيمانَ"، أو "منْ عرفَ الإيمانَ عرفَ الكُفرَ".
س2) ما الدليلُ على أنَّ منْ عرفَ الإيمانَ عرفَ الكُفرَ، ومن عرف المُؤمن عرف الكافر المُعيّن؟
جـ2) إليك الأدلّةُ بإيجاز:
(أولا) بيّن القرآن أنّ أحدا لا يصيرُ مُؤمنا وهو لا يعرفُ الفرق بين "الإيمان" وضدّه الذي هو "الكفر"، بل إنّه لا يصير مؤمناً حتى يكون "حنيفًا" بريئاً من الشرك ومن أهل الشرك. وقد أوجب الله على المؤمن أن يتبع سبيل الأنبياء والمرسلين الذين تبرؤُوا من أقوامهم المعينين المشركين.
قال الله تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ﴾ (الممتحنة: 4)
فإذا عرفت أنَّ الله يُريدُ منّا البراءة من أهل الإشراك وقطع موالاتهم، فاعلم أنَّ الامتثال بالأمر الإلهي، لا يتحقَّقُ إلا بعد الاعتقاد بكُفر الفرد المعيّن الفاعل للشركِ، أو الجماعة المعيّنة، الفاعلة للشرك. فإنّ الله لا يُكلِّفنا بأمر لا سبيل إلي تحقيقه.
(ثانياً) إنّ الإنسان لا يكون مؤمناً حتى ينال درجّة من العلم، فيعلم :-
(1) أنّ الله هو الخالق المالك الرازق المحيى المميت المدبر لأمر الكون كلّه، وأنّه وحده المستحق للعبادة والطاعة ولا إله إلاّ هو ولا حاكم سواه.
(2) أنّ لله ملائكة وهم عبادٌ مكرمون مقرّبون يؤدون وظائف مختلفة يطيعون الله فيها.
(3) أنّ الله تعالي أنزل كتباً بيّن فيها كلّ الحقائق التي لا يستغني عن معرفتها الإنسان وبيّن فيها أوامره ونواهيه وآخرها القرآن الكريم.
(4) أنّ الله تعالي كان يُرسل دائماً رسلاً مبشرين ومنذرين كلما انحرفت البشرية عن الإسلام والتوحيد ودخلت في الكفر والشرك وكان محمد صلى الله عليه وسلم آخرهم.
(5) أنّ يوم البعث والحساب حقّ، وأنّ الله جعل ذلك اليوم ﴿ليجزي الذين أساؤُا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى﴾
فهذا القدر من العلم يستوي فيه المؤمنون وإن تفاضلوا في اليقين والإخلاص والعمل وكلّهم علماء فيه. ومن جهل هذا القدر من العلم فهو كافر جاهل. ومن عرفه واعتقده، ثم جحده وأنكره، فهو كافرٌ مرتدّ. ومن لم يعرف الكفر لم يعرف الإيمان، ومن شكّ في كفر الكافر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فهو كافرٌ خارج عن ملّة الإسلام.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا﴾ (النساء: 136).
فمعرفة هذه الأمور ليست قاصرة على العلماء وإنما هي معلوم بالضرورة من دين الإسلام. وكلّ مسلم داعيةٌ في هذه الأصول وغيرها من المعلوم من الدِّين بالضرورة كالصلاة والزكاة والصيام والحجّ والجهاد وبرّ الوالدين وتحريم الخمر والميسر والربا والزنا وغير ذلك. وكل من تبلغه الحجّة الرسالية في قضية من القضايا فقد قامت عليه الحجة وإن كان مبلِّغها من عامّة المسلمين.
قال تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ (الأنعام:19) فدلّت الآية على أنّ من بلغه القرآن، وفهِم المراد، فقد قامت الحجةُ عليه.
وبعد هذا القدر من العلم الضرُوري، فإنّ الشريعة الإلهية متشعبة كثيرة الفروع، والمؤمنون متفاوتون في العلم بها، وبعضُهم أكثر أخذاً للعلم من بعضهم، وليس منهم أحدٌ إلاّ ويجهل بعض الشريعة. ولكنّهم جميعاً يؤمنون بالشريعة كلّها إجمالاً أي يعلمون أنّ كلّ ما جاء في كتاب الله حقٌّ من عند الله.
وتوجد أمورٌ كثيرةٌ تُعرف بالنظر ويَعلَمُها العلماءُ أو بعضُهم، فوجب عليهم أن يكونوا قائمين بالحجّة وأن يُعلِّموا الناس ما جهلوه من دينهم، فمن قامت الحجة في نفسه، وتبيّن له الحقّ فهو الجدير بإقامة الحجّة على غيره.
والقولُ بأنّهُ: "لا يُقيم الحجة إلاّ عالمٌ بها"، قولٌ صحيحٌ إذا كان المقصُود منه هو أنّ المسألة التي يعرفها كلُّ المسلمين، فكلُّ المسلمين يُقيمون الحجة الرسالية على غيرهم. والمسألة التي لا يعلمها إلاّ الخواص من أهل العلم فإقامة الحجّة على غيرهم خاصّةٌ بهم. وقد جعل الله للعلماء منْزلة رفيعة بين المؤمنين.
قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (المجادلة: 11).
ولذا فإنّ هناك أموراً كثيرة يعلمها بعض الناس أنّها كفرٌ وردٌ لأمرٍ من أوامر الله، أو خبرٌ من أخباره، ولا يعلمها الآخرون لقلّة معرفتهم للأوامر والأخبار.
والحكام والقضاة في الإسلام هم رجالٌ مسلمون يؤدون وظائف شرعية، ويقيمون حدود الله على عباده، ولكنّهم كسائر المسلمين في معرفة الفرق بين المؤمنين والكافرين، ويجوز أن يكون في المسلمين من هو أعلم منهم بجوانب من أحكام الشريعة.
(ثالثا) في كتاب الله أمثلة صريحة لمحاورات تقعُ بين الرسُل وأقوامهم المشركين. وفيها كذلك محاورات قد قامت بين مُؤمنين -ليسُوا بمرسلين- وكافرين، فدلّت على أنَّ من عرف الإيمان عرف الكُفر والكافرين، وإن كان من عامة المسلمين. فمما ورد في القرآن، ما يأتي:
1) ورد في القرآن حوار دار بين رجلين، شكّ أحدهما في أمر البعث. فقال الآخر المؤمن: ﴿أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً﴾ (الكهف: 37).
فدلّت الآية على أنّ للمؤمن أن يقول لمن كفر بالله كفراً ظاهراً، "أ كفرت بالله".
والآية ذكرت منكر البعث، ومثله "منكر وجود الله" أو "المشرك بالله "، أو الكافر برسل الله، أو كتبه، أو ملائكته، فمن وقع في شيء من هذه المكفرات، يتحتم عليك أن تعتقد كفره، وإلاّ كنت من الخاسرين.
قال تعالى: ﴿وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (يونس: 95).
2) وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾ (الأحقاف: 17). يدلّ على أنّ الوالدين المؤمنين يستطيعان أن يعرفا كفر ابنهما إذا كان مظهراً للكفر، ولا ينتظران الإفتاء من العلماء والقضاة.
3) إنّ الله حرّم على الأولاد طاعة الوالدين في الشرك والكفر فقال: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ﴾ (لقمان:15)
فدلّت الآية على أنّ الولد إذا كان مؤمناً بالله، يستطيع أن يعرف كفر أبويه إذا وقعا في الشرك ودعوا إليه، ولا ينتظرُ الإفتاء من العلماء والقضاة.
4) وذكر الله تعالي أنّ أصحاب الكهف قالوا: ﴿هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا﴾ (الكهف: 15ـ16).
فدلت الآية على أنّ فتية أصحاب الكهف المؤمنين كانوا يعرفون أنّ قومهم مشركون ظالمون يفترون على الله الكذب لما اتخذوا الأنداد والآلهة الباطلة المعبودة من دون الله. ومعرفتهم لكفر القوم صادرة عن إيمانهم ويقينهم فهم لما عرفوا الإيمان عرفوا الكفر. وهذه من فضائلهم المذكورة في كتاب الله الخالد للتأسي والاقتداء بهم.
(رابعا) إنَّ الله أنزل في كتابه أحكاما، أوامر ونواهي، ليتعامل على أساسها المُؤمنُون مع الكُفار، مما يدلُّ على ضرُورة تكفير المُعيّنين الذين كفّرهم اللهُ، فمثلا:
1) إنّ الله يأمر المؤمنين بجهاد المشركين وقتلهم وقتالهم. فقال تعالى: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة:5).
وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة: 123).
ولا سبيل إلي العمل بهذه الآيات وأمثالها، إلاّ بعد الاعتقاد بوجود أقوام معينين سمّاهم الله كفاراً، يُمكنُ أن نعرفهم بما يظهرونه من أقوال وأعمال.
2) نَهى الله عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين، فقال: ﴿وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (البقرة:221).
ولا يمكن العمل بهذه الآية الكريمة والاجتناب عن الوقوع في الحرام إلاّ بعد الاعتقاد بأنّ النساء قسمان: "مؤمنات" و "مشركات كافرات". وأنّ هناك قواعد وحدوداً بيّنها الله، ويُعرف بها "المؤمنة" من "المشركة" على التعيين، ويُعرفُ بها كذلك " المؤمن " من " المشرك " على التعيين .
(خامسا) إنّ الصحابة رضوان الله عليهم قاتلوا في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أقواماً وأفراداً معينين لشركهم وعدم إيمانهم بالله. كما قاتلوا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، أقواماً وأفراداً معينين لكفرهم وردّتهم بعد إسلامهم. فدلّ ذلك على أنّ تكفير الكفار المعينين ليس وقفاً على الأنبياء .. وإنما هو إيمان وعمل بكتاب الله وفريضة ملقاة على عاتق كلّ مؤمن ولا تختص بقوم دون قوم ولا بفرد دون آخر .
(سادسا) إنّ الله تعالي أكثر في القرآن من ذكر "المنافقين" وأنزل سوراً وآيات كثيرة تبيّن صفاتهم التي تميّزهم عن المؤمنين الصادقين، وذلك كي لا ينخدع بهم المؤمنون.
ومن المعلوم أنّ هؤلاء المنافقين كانوا يظهرون الإسلام ويدّعون الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ويبطنون الكفر وكراهية الحقّ ومعلوم كذلك أنّ الله كشف أسرارهم وأظهر نيّاتهم الخبيثة وبين سمّاتهم البارزة ليحذرهم المؤمنون ولا يثقوا بأكاذيبهم ودعاويهم.
فإذا كان الله لا يريد ولا يرضى لعباده المؤمنين أن ينخدعوا ويثقوا بأولئك الكفار المنافقين الّذين لا يُظهرون كفرهم، فهل من المعقول أن يرضى لهم الانخداع والثقة للكفار المشركين الّذين يظهرون كفرهم وشركهم؟
وكيف لا ينخدع للمنافقين من انخدع للمشركين؟، وكيف لا يكون ذلك المنخدع مخالفاً للقرآن الكريم الّذي ينهى عن طاعة المشركين والمنافقين ويأمر بجهاد الفريقين.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (الأحزاب: 1).
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (التوبة: 73).
(سابعا) إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ، لما أوصى بطاعة أمراء المُسلمين في المعرُوف، قال "إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله برهان" (متّفق عليه). وهو يدلّ على أنّ في استطاعة المؤمن أن يعرف وقوع الأمير في الكفر البواح وخروجه عن دائرة الإسلام، او عدم وقُوعه فيه، وإلاّ لم يكن لهذا الشرط فائدة.
(ثامنا) إنّ هذه المسألة، أي: معرفة المُؤمن كُفرَ المُعيَّنِ الواقع في الكُفرِ، من نوع الاجتهادِ الّذي لا يفتقرُ إلى علم كثير ولا إلى معرفة لغة العرب، وهو ما يعرف في أصول الفقه بـ"تحقيق المناط". أيْ أنَّ المسلم العالم أو العامي، إذا تبيّن لهُ حُكمُ مسألة من المسائل، فإنّ عليه العمل بها.
فمثلا إذا عرفَ أنّ الخمر حرامٌ، وعرف عين الخمر، ثُمّ رأى رجُلا يشربُها، فإنَّهُ لا ينتظرُ من العلماء، أن يقُولُوا لهُ: "هذا شارب خمر". بل يجزمُ بذلك، ويشهدُ عليه أمام القاضي، أنَّ فلانا شاربُ خمر.
وإذا عرف المسلم الأعجميّ وبلغهُ بلغته، أنّ الصلاة لا تصح إلاّ بشروط منها: "استقبال القبلة"، و"ستر العورة"، فإذا رأى هذا المسلم الذي لا يعرف العربية إنساناً يصلِّي عُرياناً، أو مستدبر القبلة، فالصواب أن يقول لهذا المصلِّي: "لم تصحّ صلاتُك" وأن يأمره بستر العورة واستقبال القبلة.
وتكون الحجّة قد قامت بقوله هذا على المصلّي الذي صلّى الصلاة الفاسدة. ومن قال لهذا المسلم الأعجميّ: لماذا تأمرُ وتنهى وعلمُك قليلٌ ولا تعرف العربية فهو أضلّ من حمار أهله، لأنّ الاجتهاد هنا في تحقيق المناط الذي لا يفتقرُ إلى علم كثير ولا إلى اللغة .. ومن أنكره فقد خرج من زمرة العلماء والعقلاء.
وكذا إذا أسلم الأعجميّ وعرف أنّ دعاء الأموات والاستغاثة بهم فيما لا يقدر عليه إلاّ الله "شركٌ أكبر مخرجٌ من الملّة". وعرف أنّ الله قد أهلك أمماً كثيرةً بهذا الشرك وأمثاله، فإنّ علمَهُ هذا يجعله خائفاً من الوقوع فيه.
ثُمّ إذا رأى هذا المسلم الأعجمي الذي لم يتعلّم اللغة العربية معتكفاً على قبرٍ يطلب منه المطر والرزق والأولاد .. فإنّه يعلم أنّه في الشرك الأكبر، وأنّ عليه أن يدعُوهُ إلى التوبة من هذا الشرك، وإلى إخلاص العبادة لله.
ومن أنكر على هذا المسلم قيامه بالدعوة إلى الله وإقامته للحجّة على المشرك، فهو أضلّ من حمار أهله، ويكون قد خرج من زمرة العلماء والعقلاء، لأنّ الاجتهاد هنا في تحقيق المناط الذي لم ينكره إلاّ السفهاء والمجانين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "تحقيق المناط: وهو أن يُعلِّق الشارع الحكم بمعنى كليّ فَيُنْظَرُ في ثبوته في بعض الأنواع وبعض الأعيان كالأمر باستقبال القبلة، واستشهاد شهيدين، وكتحريم الخمر والميسر، وكفرضه تحليل اليمين بالكفارة، وكتفريقه بين الفدية والطلاق، فيبقى النظر في بعض الأنواع هل هي خمر أو يمين وميسر وفدية أو طلاق.
وفي بعض الأعيان: هل هذا المصلّي مستقبل القبلة، وهذا الشخص عدلٌ مرضيٌّ ونحو هذا. وهذا النوع من الاجتهاد متّفق عليه بين العلماء بل بين العقلاء". (الفتاوى:19/14)
قُلتُ: قولهُ: "وهذا النوع من الاجتهاد متّفق عليه بين العلماء، بل بين العقلاء"، مُرادُهُ أنَّهُ لم يُنكرْ في العمل به إلاّ السفهاء والمجانين من البشر".
وقال الإمام الشاطبي: (المسألة السادسة):
"الاجتهادُ لا يتوقفُ على اللغة: قد يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط فلا يفتقر فى ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع كما أنه لا يفتقر فيه إلى معرفة علم العربية لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو عليه". (الموافقات: 4/527).
وهذه الأوجه الثمانية التي ذكرتها كافية للعلم بأنّ من آمن بالله، يعرفُ من كفر بالله فألحد أو أشرك إذا أظهر ذلك، فيكون عنده كافراً على التعيين. ومن آمن بالبعث والحساب، يعرفُ من أنكر وكفر بذلك، إذا أظهر ذلك فيكون عنده كافراً على التعيين. ومن آمن برسل الله وملائكته وكتبه يعرف من لم يؤمن بذلك إذا أظهر ذلك فيكون عنده كافراً على التعيين.
وهذا في المسائل الواضحة والمكفّرات التي لا تخفي على المؤمنين. ولا شكّ أنّ هناك أموراً كثيرة يعرفها البعض أنّها كفرٌ ولا يعرفها الآخرون. وقد أخطأ الذين جعلوا المكفّرات كلّها على مستوى واحد. وجعلوا التكفير حقّاً خاصاً للعُلماء والحُكام والقضاة وقالوا "نكفّر الأعمال ولا نكفّر الأعيان".
س3) ما صحّة قول البعض: "نكفّر الأعمال ولا نكفّر الأعيان"؟
جـ3) هذا القول خطأ من وجه، وصحيحٌ من وجه آخر. أمَّا الخطأ فهو الظنّ بأنّ "الأعيان" لا يُكفَّرون ولا يُعتقَدُ أنّهم قد كفروا مُطلقا، وإن فعلوا الكفر الأكبر. وبطلان هذا القول ظاهرٌ بحمد الله بالأدلّة المتقدِّمة وغيرها.
وله وجهٌ من الصحة، وذلك إذا قال المفتي في سُلطان الدولة المسلمة: "إنِّي أُبيّن لكم القضايا المكفّرة لتجتنبوها وتأمروا الواقعين فيها باجتنابها، ولكن أنا لا أقولُ لكم فلان بن فلان قد ارتدّ ودمُه مباحٌ لكم، لأنّ إنزال العقوبات، وإقامة الحدود لولاة الأُمور ونوابهم وقضاتهم، ولستُ من أولئك، فأنا أُكفِّرُ الأعمال ولا أُكفّر الأعيان".
هذا ما يُمكنُ أن يقوله العلماء المُفتُون الذين لا يُشغلون مناصب الدولة كالإمارة العامّة والقضاء وولاية الأمصار. وليس المعنى أنّ المُفتي لا يعلمُ كُفرَ الكافر المُعيّن إذا كفر، وإنّما هو على سبيل ترك وظيفة القضاء لمن تولّاها.
س4) هل هُناك فرقٌ بين تكفير الوثنيّ أو الكتابيّ المعيّن، وبين تكفير الواقع في الكفر، وهو يشهدُ الشهادتين وينتسبُ إلى الإسلام؟

جـ4) لا فرق بين جميع أصناف الكُفار المظهرين لكُفرهم، فكلُّ من أظهر ما ينقُضُ الإيمان، فهو كافرٌ في كتاب الله، وإن انتسب إلى الإسلام. وصحّة ذلك يظهرُ لك من وجوه:
(أولاً) إنّ الله تعالي هو الذي قسم النّاس إلي مؤمنين وكافرين قال تعالي: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (التغابن: 2).
وبيّن أنّ المؤمن هو: من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ (النساء: 136).
والكافرُ هو كلّ خارج من الإيمان، ومن خرج من الإيمان خُرُوجا ظاهرا مع الانتساب إلى الإسلام، فهو من أهلِ الكُفرِ مع انتسابه، إذ ليس في الدُنيا دينٌ إلا الإيمان أو الكُفر. قال تعالى: "لكُم دينُكم ولي دين".
والخارجون عن الإيمان أمّة واحدة، وحزبٌ واحدٌ، هو "حزبُ الشيطان" وان اختلفوا وتنوّعوا في الضلال. فأهل الأوثان أصبحوا كفاراً خارجين عن الإيمان لشركهم وإنكارهم للمعاد والحساب فلم تنفعهم معرفتهم بوجود الله وكونه فاطر السماوات والأرض ومدبر الكون.
وأهل الكتاب أصبحوا كفاراً خارجين عن الإيمان لشركهم وتكذيبهم لبعض رسل الله فلم تنفعهم معرفتهم بوجود الله وملائكته واليوم الآخر وانتسابهم الي رسل الله وكتبه.
ومن كفر وهو ينتسب إلى الإسلام، فقد دخل في ملّة الكُفر، وتُسمِّيه الشريعةُ "كافراً مرتداً". والمتوقفُ عن تكفير المرتدين الذين ظهر كفرهم كالمتوقف عن تكفير اليهود والنصارى ومشركي العرب.
(ثانياً) قد ارتدت طوائف متنوعة عن الإسلام وهي لا تزال تنتسب إليه فاجمع المسلمون على تكفيرهم، ولم يروا انتسابهم إلي الإسلام مانعا من ذلك. ولم يخلُ قرنٌ من قُرُون الإسلام من طائفة كافرة مُنتسبة إلى الإسلام.
وكان مانعو الزكاة الذين ظهروا في خلافة الصديق رضي الله عنه من أخفّهم كفراً. وكانوا يشهدون الشهادتين ويزعمون الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر .. وقد روي الإمامُ الشافعيُّ أنّ بعضهم قال: "ما كفرنا بالله ولكنّنا شححنا بأموالنا". ولكنّ الصحابة رضوان الله عليهم قاتلوهم قتال الكفار لعلمهم أنّ من منع الزكاة فقد كفر ببعض الكتاب، ومن كفر ببعض الكتاب فقد كفر بالكتاب كلّه. ومن كفر بالكتاب كلّه فقد كفر بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر.
(ثالثاً) أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل المرتدين فقال: "من بدل دينه فاقتلوه" (البخاري).
وبيّن مع ذلك أنّ ضلال هذه الأمة سيكون مشابها لضلال أهل الكتاب الذين كفروا بالله وهم يدّعون الإيمان به.
وهذا ظاهر من الحديث الصحيح: "لتتبعنّ سنن من كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة حتي لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه". قالوا: "يا رسول الله اليهود والنصارى؟". قال: "فمن"؟. فالتوقفُ عن تكفير المرتدين المنتسبين إلى الإسلام تغييرٌ لشريعة الله، ومخالفة للأمر النبوي بقتل المرتدين لأنّ القتل لا يقع إلاّ على معيّن.
والإنسان المؤمن قد يكون في وضع لا يقدر فيه على تنفيذ القتل على المرتدين ولكن لا يحلّ له أن يجعل المرتدين المجرمين كالمسلمين المتقين في الولاء والتعاون والتآخي. قال تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ (القلم: 35-36).
س5) هل يدخُلُ المتوقفُ عن تكفير المشرك المُنتسب إلى الإسلام في عمُوم "من لم يكفِّرْ الكافر، فهو كافرٌ"؟، وهل ذكر ذلك أحدٌ من أهلِ العلم؟
جـ5) كُلُّ من توقّف عن تكفير من أظهر كُفرًا أكبر، مع علمه بحاله، وثُبُوت كُفره، فهو كافرٌ، وإن كان مُنتسبا إلى الإسلام. ونقل القاضي عياض الإجماع على ذلك.
قال في "الشفا": "وكذلك وقع الإجماع على تكفير كل من دافع نصَّ الكتاب أو خص حديثا مجمعا على نقله مقطوعا به مجمعا على حمله على ظاهره كتكفير الخوارج بإبطال الرجم ولهذا نُكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل، أو وقف فيهم، أو شك، أو صحّح مذهبهم، وإن أظهر مع ذلك الإسلام، واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه فهو كافرٌ بإظهاره ما أظهر من خلاف ذلك".
وقال الإمام ابن تيمية: "وهكذا هؤلاء الاتّحادية فرؤوسهم هم أئمة كفر يجب قتلهم ولا تقبل توبة أحد منهم إذا أخذ قبل التوبة. فإنه من أعظم الزنادقة الّذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر" (الفتاوى: م 2/ص: 130).
وقال: "ومن كان محسناً للظنّ بهم وادّعى أنّه لم يعرف حالهم عرف حالهم فإن لم يباينهم ويظهر لهم الإنكار وإلاّ ألحق بهم وجعل منهم" .
وقال: "ومن لم يكفّر هؤلاء وجعل لكلامهم تأويلاً كان عن تكفير النصارى بالتثليث والاتّحاد أبعد" (الفتاوى: م 2/ ص: 133).
وقال الإمام مُحمّد بن عبد الوهاب، في "الواجبات المتحتمات": "الثالث: من لم يكفّر المشركين او يشكُّ في كفرهم أو صحّح مذهبهم كفر".

الثالث) التّوحيدُ لفظٌ ومعنى)

(الثالث) التّوحيدُ لفظٌ ومعنى
س1) هل التّوحيدُ هو التلفظ بكلمة التَّوحيد، أم هو اللفظُ ومعناهُ؟
جـ1) إنَّ التّوحيدُ لفظٌ ومعنى مطلُوبٌ تحقيقهُ، ومن أنكر المعنى والتحقيق لم ينفعْهُ اللفظ. وتحقيقُ الشهادتين هو إخلاصُ العبادة لله، و أن نعبد الله بما شرع على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال اللهُ تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ (النساء:36)
وقال: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ (الأنعام:151)
وقال: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ (الإسراء:23)
وقد تقدّم قول الإمام "ابنُ تيمية": "ودينُ الإسلام مبنى على أصلين، وهما‏:‏ تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله‏.‏ وأول ذلك ألا تجعل مع الله إلها آخر، فلا تحب مخلوقًا كما تحب الله، ولا ترجوه كما ترجو الله، ولا تخشاه كما تخشى الله".
والأصلُ الثاني‏:‏ أن نعبده بما شرع على ألسن رسله، لا نعبده إلا بواجب أو مستحبّ، والمباح إذا قصد به الطاعة دخل في ذلك‏".‏ (الفتاوى: م:1 ص: 310)
س2) بماذا يستدلُّ من أعذرَ تاركَ إخلاصِ العبادة بالجهل؟
جـ2) لا دليل لهم، وإنّما حملهم سُوءُ الفهم على هذه المقالة، فهم لما فرَّقوا بين اللفظ وتحقيقه، ظنُّوا أنَّ التَّوحيد الَّذي هو "أصلُ الدِّين"، هو قولُ "لا إله إلاّ الله، مُحمّدٌ رسُولُ الله". أمَّا معنى "لا إله إلا الله"، الّذي هو إخلاصُ العبادة لله، وتركُ الشرك، فلم يفهمُوا أنَّهُ أصلُ الدِّين.
ولأجل هذا الخطأ، إذا سألتهم: ما حُكمُ من لم يسمع بقول "لا إله إلا الله" قطّ؟. لا يقُولون: "هو مسلمٌ معذورٌ بالجهل". أمَّا إذا سألتهم: ما حُكمُ من لم يسمعْ بإخلاصِ العبادة لله، ويُشركُ بالله، وينطقُ بـ"لا إله إلا الله"؟، يقُولون: "هو مسلمٌ معذورٌ بالجهل".
فتبيَّنّ من ذلك، أنَّهم يُفرِّقُون بين اللّفظ والمعنى، فصار اللّفظ عندهم من أصلِ الدّين، الَّذي لا يُعذرُ أحدٌ فيه بالجهل، بينما صار معنى "لا إله إلّا الله"، خارجاً من أصلِ الدّين، فيُعذرُون فيه بالجهل، وهذا من أبعد الضّلال عن التَّوحيد.
س3) هل القولُ بأنَّ اللّفظَ أهمُّ من المعنى قولٌ صحيحٌ؟
جـ3) لا، بل العكسُ، والقولُ بأنَّ المعنى أهمُّ من اللّفظ هو الصحيح من وجوه:
(أولاً) إنَّ الألفاظ وُضعتْ للمعاني، فهي وسيلة للتعبير عن المعاني المقصُودة، فإذا تجرَّدت عن معانيها صارت عديمة الفائدة. ولذلك لم ينفع قول "لا إله إلاّ الله" اليهُود، وهم في مدينة الرّسُول صلى الله عليه وسلم ، وقد أقرَّ بعضهم بأنَّهُ رسُولُ الله، لأنَّ المعنى الذي وُضعتْ كلمةُ الشّهادة لهُ، لم يكُن يتحقَّقُ بإقرارهم.
(ثانيا) يصحُّ الإسلامُ بسائر اللّغات، ولو لُقنَ الأعجمي الكلمة العربيّة، "لا إله إلاّ الله"، فقالها ولم يعرف معناها لم يكفِ. وقد أرسل اللهُ كُلَّ الرُّسل بـ"لا إله إلاّ الله"، وذكر أنَّهم كانُوا مختلفين في اللّسان، مع اتِّفاقهم في القصد من الكلمة.
قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء:25)
وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (إبراهيم:4)
قال الشّافعي: "ولو أقرَّ أعجميّ بالأعجميّة، فهو كإقراره بالعربيّة، لأنّ الكلام موضوع ليبيِّن المتكلّم به عن غرضه. ثم لمّا كان إيمانُ الأعجميّ بلسانه كالعربيّ، اقتضى أن يكون إقراره بلسانه كالعربيّ". (المجموع شرح المهذَّب:22/324)
بينما لا يصحُّ الإسلام، ممن يُصرُّ على إظهار الشّركِ بالله، وترك الإخلاص، وإن كان من النّاطقين بالشّهادتين.
قال الحافظ ابن حجر: قال الحليمي: "ولو قال اليهوديّ لا إله إلاّ الله لم يكن مسلما حتى يقرَّ بأنه ليس كمثله شيء، ولو قال الوثنيُّ: لا إله إلاّ الله، وكان يزعم انّ الصّنم يقرِّبُه الى الله، لم يكن مؤمنا حتّى يتبرّأ من عبادة الصّنم" (فتح الباري: كتاب التّوحيد).
(ثالثا) كلمة "لا إله إلاّ الله"، لها كلمات تقُوم مقامها، ويصحُّ الإسلامُ بها، مثل: "آمنتُ بالله ورسُوله"، و"أسلمتُ لله"، وغير ذلك. أمّا معناها فلابدَّ من تحقيقه، ولا يصحُّ إسلامُ من هو مُظهرٌ للشّرك الأكبر بحال.
س4) ما الدليلُ على اشتراط التوبة من الشرك لصحّة الإسلام؟
جـ4) قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ (التوبة:11).
قال أنس رضي الله عنه:" قال: توبتهم خلعُ الأوثان، وعبادةُ ربِّهم وإقام الصلاةِ وإيتاءِ الزّكَّاة." (الطبري)
ولأنَّ قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا﴾ دليلٌ بيِّنٌ على أنَّهُ لا يصحُّ الإسلام بدون التّوبة من الشرك، وأنَّهُ لا ينفعُ النُّطق مع اعتقاد النّاقض.
كما دلَّ قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو يشهد الشهادتين ويعمل بكتاب الله: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (الزمر: 65). على أنَّ النُّطق بالشهادتين لا ينفعُ من رجع إلى الشرك الأكبر، وتبطُلُ شهادتُهُ وإسلامُه بالرجوع.
فمن قال كلمة التّوحيد، وهو في الشرك الأكبر، لا يكونُ مُسلما بقولها في أحكام الدنيا، لأنَّه لم يأت بالشرط الأول من شروط الدخول في الإسلام الذي هو "التوبة من الشرك".
س5) بعضُ العُلماء يُفتُون بصحّة شهادة من يعبُدُ غير الله، فهل المسألةُ خلافية؟
جـ5) المسألةُ ليست خلافية، وهؤلاء ليسُوا من عُلماء الإسلام، لأنَّهم يجهلُون رأس أمر الإسلام، حيث فرَّقُوا بين الكلمة وتحقيقها. ويظهرُ لك جهلهم من وجُوه:
(الأول) إذا سألتهم: ما حُكمُ من يعتقدُ بنبوّة النَّبيِّ مُحمَّد صلى الله عليه وسلم ، ونبُوَّة أحدٍ بعدهُ في آنٍ واحدٍ؟، لا يقُولون: "هو مسلمٌ معذورٌ بالجهل". وإذا سألتهم: ما حُكمُ من يدعُو الله، ويدعُو غيره، ويذبحُ لله، ويذبحُ لغيره، في آنٍ واحدٍ، يقُولون: "هو مسلمٌ معذورٌ بالجهل". فالشّركُ في عبادة الله، لا يُبطلُ الإسلامَ عندهم، والشركُ في النُّبوَّة يُبطلهُ، فما الجهلُ بالتَّوحيد، إن لم يكُنْ هذا؟.
(الثاني) إذا سألتهم: ما حُكمُ من يقُولُ بنبوّة النَّبيِّ مُحمَّد صلى الله عليه وسلم ، ويعتقدُ بأنّ الواجبَ العملُ بأحكام التَّوراة بدلا من القرآن؟، لا يقُولون: "هو مسلمٌ معذورٌ بالجهل"، بل يقُولُون: "الإقرار بنبوته هو إقرار بوجُوب مُتابعته، ومن أنكر المتابعة فقد بطل إقراره".
ولا يقُولُون: "الإقرار بكلمة التّوحيد، هو إقرار بوجُوب إخلاص العبادة لله، ومن أنكر الإخلاص فقد بطل إقراره". فجعلُوا تحقيق شهادة "مُحمّد رسُول الله" من أصل الدّين، ولم يجعلُوا تحقيق شهادة أنْ "لا إله إلا الله" من أصل الدّين، وهذا من أعظم الجهل.
(الثالث) إنَّهُم يجهلون أنَّ التَّوحيد المطلوب هو الّذي تلزمُ منهُ البراءةُ من الشّرك وأهله، ولذلك يقُولون عن المُشركِ إنَّهُ مُسلمٌ، والمُسلمُ هُو المُتَّبع لملَّة إبراهيم ومحمّد والأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام، والأنبياءُ لم يكُونُوا من المُشركين، بل كان لهم دينهم، وللمشركين دينهم.
(الرّابع) يعلمُون أنَّ من جحد الصّلاة، أو الزّكاة، أو واجباً من الواجبات المعلومة من الدّين بالضّرُورة، يرتدُّ بمجرَّد الجحد والإنكار، ولو في مرَّة واحدة، ولا ينجُوا من القتل بالرّدَّة إلا بإحداث توبة. أمّا جاحد التَّوحيد فلا يرتدُّ عندهم، ولو استمرَّ في شركه طول عمره. فوضعُوا التَّوحيد الَّذي هو أصلُ الدِّين، في مرتبة دون مرتبة الواجبات والمحرَّمات، وهذا جهلٌ بقدر التَّوحيد.
س6) هلْ من علماء الإسلام من صرح بوجُود حالات لا يكُونُ فيها النُّطقُ بالشهادتين كافيا في إسلامِ المرءِ؟
جـ6) كثيرٌ من العُلماء صرحُوا بذلك، فلنأخُذْ مثلا أو مثلين من كُلِّ قرنٍ:
(القرنُ الأول)
1) لما تُوفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ارتدّ كثير من قبائل العرب عن الإسلام وكانوا متنوّعين في الردّة، كان منهم من رجع إلى عبادة الأصنام وكفر برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان منهم من صدَّق الكذّابين المتنبِّئين ولم يُنكر التوحيدَ ورسالةَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ، ولم يقع بين الصحابة اختلاف في تكفير هذين الصنفين من المرتدين وقتالهم.
ولكن كان من المرتدين قومٌ ثَبتُوا على التوحيد وتصديق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إجمالاً ولكنّهم منعوا الزكاة، وتأوّل بعضهم أنّ دفعها كان إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصةً، فإذا مات صاحبها فقد رجع الحقُّ إلى أهل الأموال. واشتبه على بعض الصحابة أمرُ أولئك، ورأوا تركَ قتالهم وتأليفَهم، مستدلّين بالحديث الآمر بالكفّ عن الناس".. حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإذا قالوها عصموا منِّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها وحسابهم على الله".
فردَّ الصِّدِّيقُ عليهم قائلاً: "فإنّ الزكاةَ من حقِّها"، "والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة"، "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتُهم على منعه". فثاب الصحابةُ إلى قول الصّدِّيق ورأوا أنّ الحقَّ معه، وأجمعوا على قتالِ جميعِ أصنافِ المرتدين، ونصرهم الله عليهم. والقصّةُ في الصحيحين.
فإذا كان الصَّحابةُ قد ذهبُوا من الدنيا وهم مُجمَعُون على تكفير وقتل مانع الزكاة وإن كان بريئاً من الشرك والكفر إلاّ منعَ الزكاة، وإن كان يقول "لا إله إلاّ الله" ويصلِّي، فكيف يُظَنُّ بهم عدمَ تكفيرِ المشركِ بالله شركاً أكبرَ إذا كان يُظهر التوحيد وشعائر الإسلام، أليس من البيّن الواضح أنّ إظهارَ التوحيدِ وشعائرِ الإسلامِ إذا كانَ يعصمُ المشركَ من التكفيرِ والقتلِ لَعَصَمَ مانعَ الزكاة من ذلك في زمن أفضل قرونِ الأمّةِ على الإطلاق.
فثبت أنّ مذهبَ الصحابةِ هو تكفيرُ من كفرَ بالله، وعدمُ اعتبارِ ما يدَّعِيهِ وما يُظهرهُ من الشعائر حتى يرجعَ عن ذلك.
2) روى البخاريّ في الصحيح عن عكرمة مولى ابن عبّاس قال: أُتِي عليٌّ رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابنَ عبّاس فقال: لو كنت أنا لم أُحرِّقهم لنهي رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم "لا تُعذِّبوا بعذاب الله"، ولقتلتهم لقولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدّل دينهُ فاقتلوه".
ومما قيلَ في تعريفِ أُولئك الزنادقةِ، أنّهم أصحابُ ابنِ سبأ، وأنّهم ألّهوا عليّاً فاستتابهم، فلمّا أصرُّوا أحرقهم بالنَّار.
فتأمّل هذه القصّة: وقعَ قومٌ في الشركِ الأكبر، وهم ينتسبون إلى الإسلام وينطقون بالشهادتين، فلم يلتفت أحدٌ من الصحابة إلى الانتساب والنُّطق، بل كفَّروهم وقتلوهم وإن اختلفوا في صفةِ القتلِ.
(القرنُ الثاني)
1) قال الإمام الشافعيّ في "الأُمّ" (150ﻫ ـ 204ﻫ):
والإقرار بالإيمان وجهان: "فمن كان من أهل الأوثان ومن لا دين له يدّعى أنّه دين النُّبوة ولا كتاب، فإذا شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً عبده ورسوله فقد أقرّ بالإيمان ومتى رجع عنه قُتل.
قال: ومن كان على دين اليهودية والنصرانية فهؤلاء يدّعون دين موسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهما وقد بدّلوا منه، وقد أُخذ عليهم فيهما الإيمان بمحمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكفروا بترك الإيمان به واتّباع دينه مع ما كفروا به من الكذب على الله قبله.
فقد قيل لي: إنّ فيهم من هو مُقيمٌ على دينه يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله، ويقول: "لم يبعث إلينا". فإن كان فيهم أحدٌ هكذا فقال أحدٌ منهم: "أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله" لم يكن هذا مستكمل الإقرار بالإيمان حتى يقول: "وأنّ دين محمّدٍ حقٌّ أو فرضٌ وأبرأ مما خالف دين محمّدٍ صلى الله عليه وسلم أو دين الإسلام"، فإذا قال هذا فقد استكمل الإقرار بالإيمان، فإذا رجع عنه أُستُتِيبَ، فإن تاب وإلاّ قُتل.
فإن كان منهم طائفةٌ تُعرَف بأن لا تُقرّ بنبوة محمّد صلى الله عليه وسلم إلاّ عند الإسلام، أو تزعم أنّ من أقرّ بنبوته لزمه الإسلام، فشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله فقد استكملوا الإقرار بالإيمان. فإن رجعوا عنه اُستُتِيبوا، فإن تابوا وإلاّ قُتلوا". موسوعة الشافعيّ: (المجلّد السابع. ص: 596).
2) وقال الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبى حنيفة (131ﻫ - 189ه‍): "لو أنّ يهودياً أو نصرانياً قال: أنا مسلم، لم يكن بهذا القول مسلماً، لأنّ كلّهم يقولون نحن مسلمون ونحن مؤمنون ويقولون: إنّ ديننا هو الإيمان وهو الإسلام، فليس في هذا دليل على الإسلام منهم".
وقال: "ولو أنّ رجلاً من المسلمين حمل على رجلٍ من المشركين ليقتله فقال: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله، كان هذا مسلماً، وإن رجع عن هذا ضُرب عنقه، لأنّ هذا هو الدليل على الإسلام". (أحكام القرآن للجصّاص: 2/310).
وقال في كتابه"السير الكبير الجزء الخامس": باب: الإسلام:
ذكر عن الحسن رضي الله عنه قال‏: ‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏: ‏ ‏"‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‏: ‏ لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله قال‏: ‏ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل عبدة الأوثان وهم قوم لا يوحدون الله فمن قال منهم‏: ‏ لا إله إلا الله كان ذلك دليلاً على إسلامه.
والحاصل أنه يحكم بإسلامه إذا أقر بخلاف ما كان معلوماً من اعتقاده لأنه لا طريق إلى الوقوف على حقيقة الاعتقاد لنا فنستدل بما نسمع من إقراره على اعتقاده فإذا أقر بخلاف ما هو معلوم من اعتقاده استدللنا به على أنه بدل اعتقاده.
وعبدة الأوثان كانوا يقرون بالله تعالى قال الله تعالى‏: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (الزخرف‏: ‏ 87‏).
ولكن كانوا لا يقرون بالوحدانية قال الله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (الصافات‏:35)
فمن قال منهم‏: لا إله إلا الله فقد أقر بما هو مخالف لاعتقاده فلهذا جعل ذلك دليل إيمانه فقال‏: ‏"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‏: لا إله إلا الله‏"‏ وعلى هذا المانوية وكل من يدعي إلهين إذا قال واحد منهم‏: ‏لا إله إلا الله فذلك دليل إسلامه.
فأما اليهود والنصارى فهم يقولون‏: لا إله إلا الله فلا تكون هذه الكلمة دليل إسلامهم وهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا لا يقرون برسالته فكان دليل الإسلام في حقهم الإقرار بأن محمداً رسول الله على ما روي عنه أنه دخل على جاره اليهودي يعوده فقال‏: ‏ اشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فنظر الرجل إلى أبيه فقال له‏: ‏ أجب أبا القاسم فشهد بذلك ومات فقال صلى الله عليه وسلم: ‏"الحمد لله الذي أعتق بي نسمة من النار‏"‏ ثم قال لأصحابه‏: ‏ ‏"‏لُو أخاكم"‏.
قال‏: فأما اليوم ببلاد العراق فإنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولكنهم يزعمون أنه رسو ل إلى العرب لا إلى بني إسرائيل ويتمسكون بظاهر قوله تعالى‏: ‏‏﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ﴾ (الجمعة‏: ‏ 3).
فمن يقر منهم بأن محمداً رسول الله لا يكون مسلماً حتى يتبرأ من دينه مع ذلك أو يقر بأنه دخل في الإسلام حتى إذا قال اليهودي أو النصراني‏: ‏ أنا مسلم أو أسلمت لا يحكم بإسلامه لأنهم لا يدعون ذلك فإن المسلم هو المستسلم للحق المنقاد له وهم يزعمون أن الحق ما هم عليه فلا يكون مطلق هذا اللفظ في حقهم دليل الإسلام حتى يتبرأ من دينه مع ذلك‏.
(القرنُ الثالث)
1) قال الإمام محمّد بن إسماعيل البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه (194ﻫ - 256ﻫ):
"باب: المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك امرؤ فيك جاهلية) وقول الله تعالى: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ النساء: 48.
2) قال الامام إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني -صاحب الشافعي- (175 -264 ﻫ): ولو شهد عليه شاهدان بالردة فأنكره قيل إن أقررت بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتبرأ من كل دين خالف دين الاسلام لم يكشف عن غيره وما جرح أو أفسد في ردته أخذ به وإن جرح مرتدا ثم جرح مسلما فمات فعلى من جرحه مسلما نصف الدية.
3) قال الإمامُ أحمد بن محمّد الطحاويّ (239ﻫ - 321ﻫ) في كلام طويل جيّد، نأخُذُ منه مُقتطفات قال: "فقد ذهب قوم إلى أن من قال لا إله إلا الله فقد صار بها مسلما، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين. واحتجوا في ذلك بهذه الآثار وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا لهم لا حجة لكم في هذا الحديث لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما كان يقاتل قوما لا يوحدون الله تعالى، فكان أحدهم إذا وحد الله علم بذلك تركه لما قوتل عليه، وخروجه منه، ولم يعلم بذلك دخوله في الإسلام، أو في بعض الملل التي توحد الله تعالى ويكفر بجحدها، وغير ذلك من الوجوه التي يكفر بها أهلها مع توحيدهم لله.
فكان حكم هؤلاء أن لا يقاتلوا إذا وقعت هذا الشبهة حتى تقوم الحجة على من يقاتلهم وجوب قتالهم فلهذا كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتال من كان يقاتل بقولهم لا إله إلا الله، فأما من سواهم من اليهود، فإنا قد رأيناهم يشهدون أن لا إله إلا الله ويجحدون بالنبي صلى الله عليه وسلم فليسوا بإقرارهم بتوحيد الله مسلمين إن كانوا جاحدين برسول الله صلى الله عليه وسلم ".
وقال بعد أن ذكر حديث أنس الصحيح: (فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وصلوا صلاتنا..الخ)
"فدل ما ذكر في هذا الحديث على المعنى الذي يحرم به دماء الكفار ويصيرون به مسلمين لأن ذلك هو ترك ملل الكفر كلها وجحدها. والمعنى الأول من توحيد الله خاصة هو المعنى الذي نكف به عن القتال حتى نعلم ما أراد به قائله الإسلام أو غيره حتى تصح هذه الآثار ولا تتضاد.
فلما كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن حيدة لما سئل عن آية الإسلام أن تقول أسلمت وجهي لله وتخليت وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتفارق المشركين إلى المسلمين وكان التخلي هو ترك كل الأديان إلى الله ثبت بذلك أن كل من لم يتخل مما سوى الإسلام لم يعلم بذلك دخوله في الإسلام وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهم أجمعين. (معاني الآثار: 3/314)
(القرنُ الرابع)
1) قال الإمام أبو سليمان الخطابي (ت:388هـ) في قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله "معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة الأوثان دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون "لا إله إلا الله" ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف". (شرح مسلم 1/206)
وقال عند حديث أنس: "كان يغير عند صلاة الصبح، وكان يستمع، فإذا سمع آذانا أمسك وإلا أغار":
قلت: فيه من الفقه أنَّ إظهار شعائر الإسلام فى القتال وعند شنِّ الغارة، يحقنُ به الدم، وليس كذلك حال السلامة والطمأنينة الَّتى يتَّسع فيها معرفة الأمور على حقائقها، واستيفاء الشروط اللازمة فيها" (معالم السنن)
2) والقاضى الحسين الحليمى (338- 403هـ): قال الحافظ ابن حجر: "قال الحليمي ولو قال اليهودي لا إله إلا الله لم يكن مسلما حتى يقر بأنه ليس كمثله شيء ولو قال الوثني لا إله إلا الله وكان يزعم ان الصنم يقربه الى الله لم يكن مؤمنا حتى يتبرأ من عبادة الصنم (فتح البارى:كتاب التوحيد).
3) وقال الإمام عبد القاهر بن طاهر البغدادي (ت:429ﻫ) في كتابه "الفَرق بين الفِرق"، (الباب الرابع): في بيان الفرق التي انتسبت إلى الإسلام وليست منها: قال:
"وقد ذكرنا قبل هذا أنّ بعض الناس زعم أنّ اسم ملّة الإسلام واقعٌ على كلّ مقرٍّ بنبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم وأنّ ما جاء به حقٌّ كائناً قوله بعد ذلك ما كان، وهذا اختيار الكعبيّ في مقالته. وزعمت الكرّامية أنّ اسم أمّة الإسلام واقعٌ على كلّ من قال: لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، سواءً أخلص في ذلك أو اعتقد خلافه.
وهذان الفريقان يلزمهما إدخال العيسوية من اليهود والشاذكانية منهم في ملّة الإسلام، لأنّهم يقولون لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، ويزعمون أنّ محمّداً كان مبعوثاً إلى العرب وقد أقرُّوا بأنّ ما جاء به حقٌّ. (الفَرقُ بين الفِرق: 220-222).
(القرنُ الخامس)
1) وقال الإمام السرخسي فى "المبسوط"(ت: 490هـ) بعد حديثه عن توبة المرتدّ:
"ولكن توبته أن يأتي بكلمة الشهادة ويتبرأ عن الاديان كلها سوى الاسلام أو يتبرى عما كان انتقل إليه فان تمام الاسلام من اليهودي التبرى عن اليهودية ومن النصراني التبرى عن النصرانية ومن المرتد التبرى عن كل ملة سوى الاسلام.
2) وقال الإمام الحسين البغوي (ت: 516هـ): "الكافر إذا كان وثنيا أو ثنويا لا يقرّ بالوحدانية فإذا قال: "لا إله إلا الله" حكم بإسلامه ثم يجبر على قبول جميع أحكام الإسلام ويبرأ من كل دين خالف دين الإسلام. وأما من كان مقراً بالوحدانية منكرا للنبوة فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول محمد رسول الله. وإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصة، فلابد أن يقول: " إلى جميع الخلق". فإن كان كفره بجحود واجب أو استباحة محرم فيحتاج أن يرجع عما اعتقده. ا ﻫ (فتح الباري: 12/279)
وقال فى شرح السنّة: وقوله: "حتى يقولوا: لا إله إلا الله" أراد به عبدة الأوثان دون أهل الكتاب، لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ثم لا يرفع عنهم السيف حتى يقروا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو يعطوا الجزية. (1/66)
(القرنُ السادس)
1) قال القاضي عيّاض (476ﻫ - 544ﻫ): "في بيان مسألة الكفّ عمن قال: لا إله إلاّ الله: "اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال "لا إله إلا الله" تعبير عن الإجابة إلى الإيمان. وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفي في عصمه بقول "لا إله إلا الله" إذا كان يقولها في كفره" (شرح مسلم: 1/206). ا ﻫ
2) قال الإمام الشيخ عبد القادر بن أبي صالح الجيلاني (ت:561ﻫ) في "الغنية": (باب) الذي يجب على من يريد الدخول في دين الإسلام:
(أولا) أن يتلفظ بالشهادتين: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ويتبرَّأ من كلِّ دين غير دين الإسلام، ويعتقد بقلبه وحدانية الله تعالى. (الغنية:13)
3) وقال الإمام ابن قدامة الحنبليّ (541ﻫ - 620 ه‍)
ومن أقر برسالة محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأنكر كونه مبعوثاً للعالمين، لا يثبت إسلامه حتى يشهد أن محمداً رسول الله إلى الخلق أجمعين، أو يتبرَّأ مع الشهادتين من كل دين يخالف الإسلام، وإن زعم أن محمداً رسول مبعوث بعدُ غير هذا، لزمه الإقرار بأن هذا المبعوث هو رسول الله، لأنه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل أنه أراد ما اعتقده، وإن ارتد بجحود فرض لم يسلم حتى يقر بما جحده، ويعيد الشهادتين لأنّه كذب الله ورسوله بما اعتقده..
وقال أيضاً: "وإن كان الإمام ممن يُسلِمُ تارة ويرتدُّ أُخرى لم يصلَّ خلفه حتى يُعلمَ على أيِّ دينٍ هو". (المغنى والشرح الكبير: 2|35)
(القرنُ السابع)
1) قال الإمام يحيى بن شرف النووي (631 ﻫ - 676 ه‍) في شرح مسلم:
(باب من مات لايشركُ بالله): "فأمّا دخول المشرك النار، فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي اليهوديّ والنّصرانيّ، وبين عبدة الأوثان، وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحقّ بين الكافر عنادا وغيره، ولا من خالف ملّة الإسلام، وبين من انتسب إليها ثمّ حُكم بكفره بجحده ما يكفرُ بجحده وغير ذلك.
وقال في مجموع شرح المهذّب: "وإن كان ممن يزعم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بُعث إلى العرب وحدها أو ممن يقول إنّ محمداً نبيٌّ يُبعث وهو غير الذي بُعث لم يصحّ إسلامه حتى يتبرّأ مع الشهادتين من كل دينٍ خالف الإسلام، لأنّه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل أن يكون أراد ما يعتقده، وإن ارتدّ بجحود فرضٍ أو استباحة محرّمٍ لم يصحّ إسلامه حتى يرجع عما اعتقده ويعيد الشهادتين لأنّه كذّب الله وكذّب رسوله بما اعتقده في خبره، فلا يصحّ إسلامه حتى يأتي بالشهادتين". (المجمُوع:19/231).
2) وقال الإمام ابن تيمية (661ﻫ - 728ﻫ): "فأيما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحجّ أو عن التزام تحريم الدماء والأموال أو الخمر أو الزنى أو الميسر أو نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب أو غير ذلك من التزام واجبات الدِّين، أو محرّماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها - والتي يكفر الواحد بجحودها- فإن الطائفة الممتنعة تقاتَل عليها وإن كانت مقرّة بها وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء.
وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنْزلة البغاة الخارجين على الإمام أو الخارجين عن طاعته كأهل الشام مع أمير المؤمنين على بن أبى طالب. وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام".
وقال: "إن لم يعتقد وجوب الصلوات الخمس والزكاة المفروضة وصيام شهر رمضان وحجّ البيت العتيق، ولا يحرّم ما حرّم الله ورسوله من الفواحش والظلم والشرك والإفك فهو كافرٌ مرتدٌّ يستتاب فإن تاب وإلاّ قُتل باتّفاق المسلمين، ولا يغني عنه التكلّم بالشهادتين".
وقال:"ومن قال: إنَّ كلَّ من تكلَّم بالشهادتين، ولم يُؤد الفرائض، ولم يجتنب المحارم، يدخلُ الجنَّة ولا يُعذَّبُ أحدٌ منهم بالنَّار: فهو كافرٌ مرتدٌّ، يجبُ أن يُستتاب، فإن تاب وإلا قتل" (الفتاوى: 35/105-106).
وقال: "ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين أنّ من سوغ إتباع غير دين الإسلام أو اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب" (الفتاوى: 28/ 515 )
(القرنُ الثامن)
1) قال الإمام ابن القيم (691ﻫ - 751ه‍) وهو يُبيّنُ الشرك الأكبر وحال المشركين المنتسبين إلى ملّة الإسلام: "ومن أنواعه طلب حوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم".
قال: "والميّت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم إذا زار قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل الله لهم العافية والمغفرة، فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة، وجعلوا قبورهم أوثاناً تُعبد، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى تنقُّص الأموات.
وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك وأوليائه المؤمنين بذمّهم ومعاداتهم وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقّص إذ ظنُّوا أنّهم راضون منهم بهذا، أو أنّهم أمروهم به، وهؤلاء أعداء الرسل في كلّ زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم.
ولله درّ خليله إبراهيم عليه السلام، حيث يقول: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ (إبراهيم: 35-36). وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلاّ من جرّد التوحيد لله وعادى المشركين في الله وتقرّب بمقتهم إلى الله. (مدارج السالكين).
2) وقال الإمام إسماعيل بن كثير (701ﻫ ـ 774ﻫ): في تفسيره عند قوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾
"يُنكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شرّ. وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم.
وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم (جنكيز خان) الذي وضع لهم "الياسق" وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد أقتبسها عن شرائع شتى من اليهودية، والنصرانية، والملّة الإسلامية وغيرها، وفيها كثيرٌ من الأحكام أخذها من مجّرد نظره وهواه.
فصار في بنيه شرعاً متّبعاً، يُقدِّمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليلٍ ولا كثيرٍ" 1هـ.
قلتُ: "التتار الّذين يتحدّثُ عنهم الإمامُ هم الذّين كانوا في زمنه، وكانوا ينتسبونَ إلى الإسلام وينطقونَ بالشهادتين، ولكن كانوا يُقدِّمون شرائعهم الوضعيَّةَ على حكمِ الكتابِ والسُنَّة، فصار الانتسابُ والنُّطق لاشيءَ، لأنَّ الفعلَ أصدقُ وأقوى من القول".
3) قال الإمام ابن رجب الحنبلي (736ﻫ - 795ﻫ) في (جامع العلوم والحِكم): "وقد يترك دينه ويفارق الجماعة وهو مقرٌّ بالشهادتين ويدّعي الإسلام كما إذا جحد شيئاً من أركان الإسلام أو سبّ الله ورسوله أو كفر ببعض الملائكة أو النبيين أو الكتب المذكورة في القرآن مع العلم بذلك". (ص: 205)
(القرنُ التاسع)
1) قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773ﻫ - 852ﻫ) في كتابه (فتح الباري) عند حديثه عن حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله" "وفيه منع قتل من قال "لا إله إلا الله" ولم يزد عليها وهو كذلك، ولكن هل يصير بمجرد ذلك مسلما؟. الراجح لا، بل يجب الكف عن قتله حتى يختبر. فإن شهد بالرسالة والتزم أحكام الإسلام، حكم بإسلامه. وإلى ذلك الإشارة بالاستثناء بقوله "إلا بحق الإسلام" ثم ذكر كلام البغوي في هذه المسألة. (فتح الباري: 12/ 279)
(القرنُ العاشر)
1) وقال الخطيب محمَّد بن أحمد الشربينى (ت:977ﻫ) فى مغنى المحتاج: فائدة: يصح الإسلام بسائر اللغات كما قاله ابن الصباغ وغيره وبإشارة الأخرس. نعم لو لقن العجمي الكلمة العربية فقالها ولم يعرف معناها لم يكفِ. ويسن امتحان الكافر بعد الإسلام بتقريره بالبعث بعد الموت.
3) وقال محمد بن أحمد المعروف بابن النجار (898ﻫ - 972ﻫ) في كتابه (شرح الكوكب المنير): "ومن جهل وجود الله تعالى جلّ وعزّ أو علِمه وفعلَ ما لا يصدر إلا من كافرٍ أو قال ما لا يصدر إلاّ من كافر إجماعاً فهو كافر ولو كان مقرّاً بالإسلام". (شرح الكوكب المنير: 4/385).
(القرنُ الحادي عشر)
1) قال الإمام الصنعاني (1059ﻫ - 1182ﻫ) في تطهير الاعتقاد:
"ثم إنّ رأس العبادة وأساسها التوحيد لله الذي تفيده كلمته التي إليها دعت جميع الرسل وهو قول لا إله إلاّ الله والمراد اعتقاد معناها لا مجرّد قولها باللسان ومعناها إفراد الله بالعبادة والألوهية والنفي والبراءة من كل معبود دونه".
وقال: فإن قلتَ: أفيصير هؤلاء الذين يعتقدون في القبور والأولياء والفسقة والخلعاء مشركين كالذين يعتقدون في الأصنام؟ قلت: نعم قد حصل منهم ما حصل من أولئك وساووهم في ذلك، بل زادوا في الاعتقاد والانقياد والاستعباد فلا فرق بينهم. (تطهير الاعتقاد).
(القرنُ الثاني عشر)
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب (1115ﻫ-1206ﻫ) في (كشف الشبهات): إذا تحققت أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح عقولاً وأخف شركاً من هؤلاء فاعلم أن لهؤلاء شبهة يوردونها على ما ذكرنا، وهي من أعظم شبههم فأصغ سمعك لجوابها. وهي إنهم يقولون: إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذبون الرسول، وينكرون البعث، ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث، ونصلي، ونصوم، فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟
فالجواب: أنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شئ وكذبه في شئ أنه كافر لم يدخل في الإسلام. وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه، كمن أقر بالتوحيد، وجحد وجوب الصلاة، أو أقر بالتوحيد والصلاة، وجحد وجوب الزكاة، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم، أو أقر بهذا كله وجحد الحج.
إلى أن قال: فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج، فكيف إذا جحد الإنسان شيئا من هذه الأمور كفر؟ ولو عمل بكل ما جاء به الرسول، وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر، سبحان الله! ما أعجب هذا الجهل. (كشف الشبهات: 10، 11)
(القرنُ الثالث عشر)
1) قال الإمام عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهّاب (1193 - 1285 ه‍): قوله (من شهد أن لا إله إلاّ الله) أي من تكلّم بها عارفاً لمعناها عاملاً بمقتضاها باطناً وظاهراً، فلا بد في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولها كما قال الله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ﴾، ﴿إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه من البراءة من الشرك وإخلاص القول والعمل -قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح- فغيرُ نافعٍ بالإجماع. (فتح المجيد: 33).
2) وقال سليمان بن عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهّاب: "وأما قول الإنسان لا إله إلاّ الله من غير معرفة لمعناها ولا عمل به، أو دعواه أنّه من أهل التوحيد وهو لا يعرف التوحيد بل ربّما يخلص لغير الله من عبادته من الدعاء والخوف والذبح والنذر والتوبة والإنابة وغير ذلك من أنواع العبادات فلا يكفي في التوحيد بل لا يكون إلاّ مشركاً والحالة هذه". (تيسير العزيز: 140).
(القرنُ الرابع عشر)
وقال سيد قطب (ت: 1386ﻫ تقريباً): في ظلال القرآن في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾:
"إن سفور الكفر والشرّ والإجرام ضروريّ لوضوح الإيمان والخير والصلاح. واستبانةُ سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات. ذلك أن أيَّ غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتدّ غبشاً وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم، فهما صفحتان متقابلتان وطريقان مفترقان ولا بدّ من وضوح الألوان والخطوط.
ومن هنا يجب أن تبدأ كلّ حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، يجب أن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين، ووضع العنوان المميّز للمؤمنين والعنوان المميِّز للمجرمين في عالم الواقع لا في عالم النظريات. فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون، بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم، بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان، ولا تلتبس الملامح والسِّمات بين المؤمنين والمجرمين.
وهذا التحديدُ كان قائماً وهذا الوضوح كان كاملاً، يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية. فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه، وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدِّين. ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنَزّل وكان الله سبحانه يُفصِّل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة -ومنها ذلك النموذج الأخير- لتستبين سبيل المجرمين !.
وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدّلتها وأفسدتها التحريفات البشرية، حيثما واجه الإسلام هذه الطوائفَ والمللَ كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة، وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك، لا يجدي معها التلبيس!
ولكن المشقّة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا. إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سَلالات المسلمين، في أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام، يسيطر عليها دين الله وتُحكم بشريعته. ثم إذا هذه الأرض، وإذا هذه الأقوام تهجر الإسلام حقيقة، وتعلنه اسماً. وإذا هي تتنكَّر لمقومات الإسلام اعتقاداً وواقعاً. وإن ظنّت أنها تدين بالإسلام اعتقاداً!.
فالإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله، وشهادة أن لا إله إلاّ الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله -وحده- هو خالق هذا الكون المتصرّفُ فيه. وأن الله -وحده- هو الذي يتقدّم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله. وأن الله -وحده- هو الذي يتلقَّى منه العباد الشرائعَ ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله. وأيَّما فرد لم يشهد أن لا إله إلاّ الله -بهذا المدلول- فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعدُ. كائناً ما كان اسمه ولَقَبُهُ ونسبه. وأيَّما أرض لم تتحقّق فيها شهادة أن لا إله إلاّ الله -بهذا المدلول- فهي أرض لم تَدِن بدين الله، ولم تدخل في الإسلام بعدُ.
وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماءُ المسلمين، وهم من سلالات المسلمين. وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام. ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلاّ الله -بذلك المدلول- ولا الأوطان اليوم تَدين لله بمقتضى هذا المدلول. وهذا أشقّ ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام !
أشقّ ما تُعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلاّ الله، ومدلول الإسلام في جانب، وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر.. أشقّ ما تُعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين، وطريق المشركين المجرمين، واختلاط الشارات والعناوين، والتباس الأسماء والصفات، والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق!
ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة، فيعكفون عليها توسيعاً وتمييعاً وتلبيساً وتخليطاً. حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام ! تهمة تكفير "المسلمين"!!! ويُصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألةً المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله!.
هذه هي المشقّة الكبرى وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بدّ أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل!. يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين.. ويجب ألاّ تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحقّ والفصل هوادة ولا مداهنة. وألاّ تأخذهم فيها خشية ولا خوف، وألاّ تُقْعِدُهم عنها لومة لائم، ولا صيحة صائح: انظروا! إنهم يكفِّرون المسلمين!
إن الإسلام ليس بهذا التميُّع الذي يظنّه المخدوعون! إن الإسلام بيِّن والكفر بيِّن. الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله -بذلك المدلول- فمن لم يشهدها على هذا النحو، ومن لم يُقمها في الحياة على هذا النحو، فحكم الله ورسولِهِ فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين .. المجرمين. ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾.
أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة، وأن تتمّ في نفوسهم هذه الاستبانة، كي تنطلق طاقاتهم كلُّها في سبيل الله لا تصدُّها شبهة، ولا يعوِّقها غَبَشٌ، ولا يميّعها لَبْسٌ. فإن طاقاتِهم لا تنطلق إلاّ إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم "المسلمون" وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدُّونهم ويصدُّون الناس عن سبيل الله هم "المجرمون".. كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلاّ إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان. وأنهم وقومهم على مفرق الطريق، وأنهم على ملّة وقومهم على ملّة. وأنهم في دين وقومهم في دين: ]وكذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين[. (في ظلال القرآن: م 2- ص 1105).

المسألة التاسعة طاعة الحاكم الكافر

(المسألةُ التاسعةُ) طاعة الحاكم الكافر
(أولا) الإقرار والاعتراف:
1) جاء في رسالة "منهج جماعة الاعتصام":
(ولاتنعقدُ الإمامة لكافر، ولو طرأ عليه الكفر انعزل إجماعًا).
2) وجاء فيها:
(ونؤمن أنه يجب الحكم بما أنزل الله والتحاكم إليه في كلّ صغيرة وكبيرة، ولايجوزالحكم أوالتحاكم إلى دساتير جاهلية ولا إلى قوانين وضعية ولاإلى أسلاف وعادات قبلية،
قال تعالى: ﴿أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله﴾ الشورى آية 21 .
وقال تعالى: ﴿إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذالك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ (يوسف آية 40).
وقال تعالى: ﴿إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله﴾ النساء آيه 105.
وقال تعالى: ﴿فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما﴾ النساء الآية 65.
والحكم بغير ماأنزل الله، إما كفرأكبر ينقل عن الملة كجحود أحقية حكم الله ورسوله، أو اعتقاد أن حكم غيره أحسن وأكمل منه، أو أنه مساو له، أوأنه مخير فيه، أو تشريع القوانين التي لم يأذن بها الله وفتح المحاكم لها وإلزام الناس بها رغبة عن حكم الله ورسوله. وإما كفرأصغر لا ينقل عن الملة، وذلك بأن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، والتزامه الإجمالي به واعترافه بالخطأ على نفسه). ـ اهـ
3) وجاء فيها:
(ونرى أن الديمقراطية والعلمانية منظومة فكرية مناقضة للإسلام في حقيقتها وفلسفتها ؛ لأنها ردٌّ وامتناعٌ عن الالتزام بالشريعة ابتداء).
4) وجاء فيها: (ونرى أن فصل الدين عن الدولة ضلالة ومروق وزندقة)
فأثبتُوا:
1) أنّ الإمامة لاتنعقدُ لكافر، ولو طرأ عليه الكفر انعزل إجماعًا.
2) أنّ من حكم بالدساتير الجاهلية، والقوانين الوضعية أوتحاكم إليها وقع في الشرك الأكبر.
3) أنَّ الحاكم بغير ماأنزل الله، يكفرُ كُفرًا أكبرَ ينقلُ عن الملّة في الحالات الآتية:
(الأولى) إذا جحد الحاكمُ أحقية حكم الله ورسوله.
(الثانية) إذا اعتقد أن حكم غيره أحسن وأكمل منه.
(الثالثة) إذا اعتقد أنَّ حُكم غيره مساو لحكم الله.
(الرابعة) إذا اعتقد أنه مخير في الحُكم بما أنزل اللهُ، أو الحُكم بغير ما أنزله.
(الخامسة) إذا شرَّع القوانين التي لم يأذن بها الله، وفتح المحاكم لها، وألزم الناس بها رغبة عن حكم الله ورسوله.
4) أنَّ من قدّم الديمقراطية على شريعة الله فقد انتقض إيمانُهُ.
5) أنّ الحاكم العلماني زنديقٌ ومارقٌ عن الدِّين.
(ثانيا) التعطيل:
إنّهم لما علمُوا أنّ الحُكام يُشرِّعون القوانين التي لم يأذن بها الله، ويفتحُون المحاكم لها، ويُلزمُون الناس بالتحاكم إليها، رغبة عن حكم الله ورسوله. وعلمُوا أنّهم يُقدّمون الديمقراطية على شريعة الله، وأنّهم يرون العلمانية تقدُّما وتحضُرًا... إنّهم لما علمُوا كُلَّ ذلك، هابُوا أن يعتقدُوا كُفرهم، خوفا على حياتهم وسُمعتهم في المجتمع الضالّ، فآثرُوا رضى الخلق على رضى الله، فأفتوا أنّ أئمّتهم أئمّةٌ مسلمُون، فيهم بعضُ الجور.
فأعطوهم حقُوق أئمّة المسلمين -مع كُفرهم- أعطوهم حقّ السمع والطاعة، وإقامة الحدُود، وتنزيل الأحكام على الأفراد، وتولية السياسة الداخلية والخارجية للبلاد، والجهاد بإذنهم.
1) جاء في رسالتهم:
(ولانرى الخروج على أئمة المسلمين وإن جاروا ولاننزع يداً من طاعتهم مالم نر فيهم كفراً بواحاً عندنا من الله فيه برهان , ونطيعهم مالم يأمروا بمعصية، فإذا أمروا بمعصية فلا نطيعهم في تلك المعصية، ولانخرج عليهم بسببها ونطيعهم فيما سواها من طاعة الله).
2) وجاء فيها:
(ونرى أنه لاتلازم بين كفرالحاكم -إن حصل- وبين وجوب الخروج عليه؛ لأن الخروج لا يجب عند العجز ولا عند غلب المفسدة؛ لأن الضرر لا يزال بمثله، ومن باب أولى لا يزال بأشدّ منه). ـ اهـ ـ
3) وجاء فيها:
(ونرى أن استيفاء الحقوق المتخاصم فيها، وإقامة الحدود وتقدير التعزيرات راجع لولاة الأمور، إلا في حالة التراضي بالتحاكم إلى حاكم غير ذي سلطة في الحقوق الخاصة فقط.
ونرى أن تحديد السياسة الداخلية والخارجية للأمة منوط بولاة أمورها في حدود الشرع، وأنه لا يجوز الافتئات عليهم في ذلك بل يجب النصح والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بضوابطه وقواعده).
4) وجاء فيها:
(ونرى أنه إذا تقاعس أولوالأمرعن واجب الإعداد وغيره من الواجبات فينبغي تذكيرهم والرجوع إلى قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحصيل المصالح وتقليل المفاسد لأنّ الافتئات عليهم لايجوز ولايجدي شيئا.
ونرى أن أمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، أو من يقوم مقامه، وأنه يلزم الرعية طاعته في ذلك، كما أنه يلزمهم إذنه إلا أن يفاجأهم العدو فلم يتمكنوا من ذلك؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به ،وكما تدل عليه قصة سلمة بن الأكوع مع غطفان الذين أغاروا على سرح المدينة، وهي في الصحيحين).
فأثبتُوا:
1) أنّهم أئمّةٌ مسلمُون.
2) أنّ لهم حقّ السمع والطاعة.
3) أنّ لهم تولية السياسة الداخلية والخارجية للبلاد.
4) أنّ لهم إقامة الحدُود، وتنزيل الأحكام على الأفراد.
5) أنّ الجهاد لا يقُومُ إلا بإذنهم.
فصار موقفهم مُتناقضا، لأنّهم يقُولُون بألسنتهم ما ليس في قُلُوبهم.كمن قال:
1) الموقفُ الصحيح من الحكام العلمانيين أنَّهم "أئمّةُ كُفرٍ".
2) الموقفُ الصحيح من الحكام العلمانيين أنَّهم "أئمّةُ جورٍ مسلمون".
المذهبُ الحقُّ:
إنّ المذهب الحقَّ، والموقفَ الصحيح من الحكام العلمانيين أنَّهم "أئمّةُ كُفرٍ"، ومن شكّ في كُفرهم فهو من أجهل النّاس بدين الإسلام. وإنّ الموقف الحقَّ الصحيحَ من أئمّة الكُفر، وأتباعهم، هو إعلان البراءة منهم، ودعوتهم إلى الدُخُول في دين الله من جديد، وهي طريقة رُسل الله على توالي الأزمان. فإنّهم لما وجدُوا أقوامهم على الكُفر الأكبر، صارحُوهم، وبيّنُوا لهم الحقّ، وبيّنُوا لهم كذلك موقفهم منهم. وقالُوا لهم: ﴿إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ (الممتحنة:4)
أمّا الموقف الصحيح من "أئمّة الجور"، فهو طاعتهم في المعرُوف، وإن قدر المسلمُون على عزلهم عزلُوهم عن الحُكم. أمّا إذا كانُوا لا يقدرُون على العزل، إلا مع مفسدة أعظم من المصلحة التي في العزل، فهم يتركُونهُ اختيارًا لأخفّ الضررين.
وأصحابُ "الاعتصامية"، ومن شاكلهم لم يصحِّحُوا موقفهم فضلُّوا وأضلُّوا. إذا شعرُوا بالقوّة كفَّرُوا الحكام العلمانيين، وأعلنُوا الجهاد في سبيل الله، وإذا ضعُفُوا أعلنُوا وجُوب طاعتهم، وترك الخرُوج عليهم، والصلاة خلفهم، وعليهم. فهم مرّة في تكفير وقتال، ومرّة في طاعة وولاء. وليس هذا التردُّد من دين الله الحكيم.
إنّ المُسلم الحقَّ يتبرَّأُ من أهلِ الكُفرِ، وهو ضعيف لا يجدُ لقمة العيش، لأنَّ البراءة من أهلِ الكُفرِ دينٌ، ولا خيار لهُ في الدِّين. وإذا قاتل، قاتل على دين، ولا خيار لهُ في القتال لأجل الدِّين.
قالوا في رسالتهم:
(ونرى أنه لا تلازم بين كفر الحاكم -إن حصل- وبين وجوب الخروج عليه؛ لأن الخروج لا يجب عند العجز ولا عند غلب المفسدة؛ لأن الضرر لا يزال بمثله، ومن باب أولى لا يزال بأشدّ منه). ـ اهـ ـ
فأقُولُ لهم:
"إذا عرفتُم أنّكم عاجزُون عن قتال الحاكم الكافر، فأين البراءةُ من الكفرة، ومُفاصلتهم على العقيدة، أين ملّة إبراهيم والرسل عليهم السلام؟!!. ولماذا تُبدِّعُون أهل البراءة والمفاصلة؟!!. هل عجزكم يجعلهم مسلمين، وقوتكم تجعلهم كافرين؟!!"
قالوا في رسالتهم:
(ولانرى الخروج على أئمة المسلمين وإن جاروا ولاننزع يداً من طاعتهم مالم نر فيهم كفراً بواحاً عندنا من الله فيه برهان).
فأقولُ لهم: "ألم تروا كُفرًا بواحًا بعدُ؟!!.
1) ألم تقُولُوا: إنّ الحاكم إذا شرَّع القوانين التي لم يأذن بها الله، وفتح المحاكم لها، وألزم الناس بها، خرج من الملّة؟!!.
2) ألم تقُولُوا: أنّ من تحاكم إلى غير شرع الله رغبة عنه أو رضا بغيره فقد ارتكب ناقضا من نواقض الإيمان؟!!.
3) ألم تقُولُوا: إن الديمقراطية والعلمانية منظومة فكرية مناقضة للإسلام في حقيقتها وفلسفتها ؛ لأنها ردٌّ وامتناعٌ عن الالتزام بالشريعة ابتداء؟!!.
4) ألم تقُولُوا: إنّ فصل الدين عن الدولة ضلالة ومروق وزندقة؟!!.
لماذا لم تُكفِّرُوا حُكامكم وقد فعلُوا كُلَّ ذلك؟!!.
لماذا تُبدِّعُون من عمل بفتاواكم؟!!.
ما الّذي يُعرقلكم ويمنعُكم من الانطلاق وقد وضح الطريق؟!!.
إنّها لأسئلةٌ لا جواب لها إلا المماطلة والمكابرة!!!.

السادس) لا طاعة للحاكم والسيِّد الكافر)

(السادس) لا طاعة للحاكم والسيِّد الكافر
طاعة واتِّباع أوامر الحُكام والرؤساء الكفرة مُحرّمةٌ، ومن الشرك بالله، وقد جاء بيانُ ذلك في القرآن من وجُوه مختلفة، منها:
(الوجه الأول) بيّن القرآنُ أنّ من اتّبع الرؤساء والعلماء في الباطل، أنَّهُ في شرك العبادة، وأنّ الخصُومة سوف تقُومُ بين العابدين والمعبُودين في النّار. وما ورد في الآيات الآتية من اتّخاذ الأرباب، وعبادة الرؤساء، وعبادة الشيطان، فالمرادُ هو الاتّباع والطاعة بالباطل:
قال الله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (التوبة:31)
وقال: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ. وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ. مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ. بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ. وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ. قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ. قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ. وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ﴾ (الصافات: 22-30)
وقال: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ (يس: 60-61)
(الوجه الثاني) وبيّن القرآنُ أنّ أول ما دعتهُ رُسلُ الله إليه، كان التّوبة والانخلاع من عبادة الطاغُوت، ومن الطاغُوت الإنسانُ المتبُوعُ بالباطل. كما في الآيات الآتية:
قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ (النحل:36)
وقال: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:256)
وقال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ. الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ﴾ (الشعراء:150-152)
قال الإمام مالك: "الطاغوت هو كل ما يُعبدُ من دون الله عز وجل"[ابن كثير].
وقال الإمام ابن جرير الطبريّ: "والصواب من القول عندي في الطاغوت، أنه كل ذي طغيان على الله، فعُبد من دونه، إما بقهرٍ منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له إنسانا كان ذلك المعبود أو شيطاناً أو وثناً أو صنماً أو كان ما كان من شيء" (جامع البيّان: م/ ص/25).

وقال الإمام إبن تيمية: "ولهذا سُمّي من تحوكم إليهم من حاكم بغير كتاب الله طاغوتاً"-[الفتاوى: 28/201].
وقال الإمام إبن القيّم: "فطاغوت كلّ قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله"-[أعلام الموقعين:1/40].
وقال الإمام محمّد بن عبد الوهاب: "الطواغيت كثيرة ورؤسهم خمسة:
(الأول) الشيطان الداعي إلى عبادة غير الله تعالى والدليل قوله تعالى: ﴿ألم أعهد إليكم ـ مبين﴾ [يـس].
(الثاني) الحاكم الجائر المغيّر لأحكام الله تعالى والدليل قوله تعالى: ﴿ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ـ أن يكفروا به﴾ [النساء:60].
(الثالث) الذي يحكم بغير ما أنزل الله.
قال الله تعالى: ﴿ومن لم يحكم بما أنز الله فأولئك هم الكافرون﴾ [المـائدة].
ومراد الشيخ هو: "كلّ من لا يحكم بين النّاس بما أنزل الله وإن لم يكن حاكماً عامّاً أو ملكاً".
(الرابع) الذي يدّعى علم الغيب من دون الله تعالى. قال الله تعالى: "عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً"-[الجـنّ].
(الخامس) الذي يُعبدُ من دونِ الله وهو راضٍ بالعبادة. والدليل قوله تعالى: ﴿ومن يقُل منهم إنّي إلهٌ ..... نجزى الظالمين﴾ [الأنبياء]. [مجموعة التوحيد: الرسالة الأولى:1/15].
(الوجه الثالث): إنّ الله سوّى بين التَّابع الذي أذلَّ نفسهُ في طاعة غير الله، وبين المتبُوع المتكبِّر في الصفة.
فقال: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ (القصص:8)
وسوّى بينهم في عقاب الدُنيا. فقال: ﴿فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ (القصص:40)
كما سوّى بينهم في عقاب الآخرة. فقال: ﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ. قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ﴾ (غافر:47ـ 48)
وقال أيضا: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا. وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾ (الأحزاب: 66-68)
(الوجه الرابع): وهو النّهيُ المباشر عن طاعة الكافرين واتّباعهم:
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا. وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً﴾ (الأحزاب: 1-3)
وقال: ﴿وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً﴾ (الأحزاب:48)
وقال: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ (الإنسان:24)
وقال: ﴿فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ. وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ (القلم: 8-9)
وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ (آل عمران:100)
وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ (آل عمران:149)
وبيّن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنّ من حقَّ الأمير المسلم أن يُطاع في المعرُوف، ولكنَّهُ إذا وقع في "كُفرٍ بواح"، ينتهِي حقّهُ، ولا يُطاع. في الصحيحين، عن عبادة بن الصامت، قال: "دعانا النبي صلى الله عليه وسلم ، فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا، أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا "كفرا بواحا" عندكم من الله فيه برهان".
س1) هل وقع حُكامُ العالم المنتسب إلى الإسلام في "الكُفرِ البواح"؟.

جـ1) إنّ حُكامَ العالم المنتسب إلى الإسلام، مُخيّرُون بين أمرين، لا ثالث لهُما، إمّا اختيار الكُفرِ البواح، مع إبقاء السُلطة المقيَّدة في أيديهم، وإمَّا التّوبة من الكُفرِ البواح، مع تدمير نظامهم السياسي. فكلُّ من توصّل إلى منصب الرئاسة، وبقي فيه، فهو ممن اختار الكُفر البواح.
فإنّ شُعُوب العالم واقعةٌ في براثن الدُول الغربية، التي انتصرت في الحرب المعرُوف بـ"الحرب العالمية الثانية"، وقد أقامُوا نظاما تخضعُ لهُ جميعُ الدول، وجعلُوا أنفسهم أصحاب كلمة الفصل في جميع قضايا العالم، باسم "مجلس الأمن الدولي". ولا تقدرُ دولةٌ أن تقُوم لها قائمةٌ، وهي تُخالفهُ.
ومجلسُ الأمن لا يعترفُ بوجُود الدولة، ما لم تُعلن انقيادها للشريعة الوضعية التي وضعُوها للعالم، وقدّمُوها باسم جذَّاب هو "وثيقة السلام العالمي"، أو "وثيقة حقُوق الإنسان". فكلُّ دولة يعترفُ بها مجلسُ الأمن، فلابدّ أن يكُون في دُستُورها إعلانُ موافقة ما جاء في "وثيقة السلام العالمي"، أو "وثيقة حقُوق الإنسان". وهو إعلانُ الخرُوج من شريعة الله، والدُخُول في شريعة الكفرة.
قال الإمامُ ابنُ تيمية: "ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين، أنّ من سوَّغ اتِّباع غير دين الإسلام، أو اتِّباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو كافر، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب، وكفر ببعض الكتاب، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً اولئك هم الكافرون حقا اعتدما للكافرين عذابا مهينا﴾ [النساء: 150 ـ 151]. [الفتاوى: 28/ 509 وما بعدها].
قُلتُ: "فهذا هو النّوعُ الأول من "الكُفرِ البواح" الذي هُم فيه".

و(النّوع الثاني) من الكُفر البواح الذي استحلُّوهُ، هو التشريع للعباد من دون الله، فهُم يضعُون تشريعات، ويُراعُون في التشريع أن لا يُغضبَ "القُوى الكُبرى"!! -كما يُقال- وإن أغضبَ الرحمن.
وقد قال اللهُ تعالى عن اليهُود: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31] .
وفسّر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاتّخاذ للأرباب بطاعة العلماء في التحليل والتحريم المخالف لأمر الله كما ثبت في حديث عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه.
وقال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64].
وقال: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21].
ففي الآيات الثلاث، أنّ من دعا إلى تشريعه المُخالف لتشريع الله، فقد ادّعى منصب الربُوبية والألوهية، ومن أجابهُ فقد وقع في الشرك الأكبر، باتِّخاذه البشر أربابًا من دون الله.
(النّوع الثالث) من الكُفر البواح الذي استحلُّوهُ، هو الحُكمُ بغير ما أنزل اللهُ. والحكمُ وفصلُ القضاء لله، في كلِّ ما اختُلف فيه، وليس للبشرِ فيه شيءٌ، فيجبُ الرجُوع إلى الكتاب والسنَّة فيه. قال تعالى: "وما اختلفتم فيه من شيء فحكمُهُ إلى الله" (الشورى:10)
وقال: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾. (النساء:59)
وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً﴾. (الأحزاب:36).
وتسليم الحكم لله، من تحقيق التَّوحيد، ومن إخلاص العبادة المطلُوب من العبد.
قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف:40)
وقال: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" (المائدة:44)
فالحكمُ بغير ما أنزل الله يكُونُ كفراً مخرجاً من الملَّة، إذا استحلّ الحاكم ذلك، أو امتنع من ذلك بالقوّة، أو اعتقد جواز الحكم بغير ما أنزل الله، أو أفضلية الأحكام الجاهلية، أو مُساواتها لشريعة الله، وإن كان يزعم أنَّ الحكم بشريعة الله واجبٌ عليه.
والحاكم المسلم يفسُقُ بالجور والمُحاباة في القضاء، ولا يكُون كافراً ما لم يتبيَّن منه الاستحلال، واتِّخاذ المخالفة شريعة مضادَّة لشريعة الله. وعن مثلِ هذا الجور قال عنهُ ابنُ عبّاس، إنّهُ "كُفرٌ دون كُفر"، فاتّخذهُ دُعاةُ التلبيس حُجّة لباطلهم.
(النّوع الرابع) من الكُفر البواح الذي استحلُّوهُ، هو "مُوالاة الكُفار"، وإظهار مودّتهم، وإرضاؤُهم بما يُسخطُ الله، كمحاربة دينه، وإذلال دُعاته. ثُمَّ الانتسابُ إلى مناهجهم الكافرة، ونظرياتهم العقيمة، وإكرامُ من أكرمهُ الكُفارُ، وإذلال من أذلُّوهُ.
قال اللهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة:51].
قال تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النساء:138-139].
وهذه الآيات نزلت في أقوام يُخفُون كُفرهم ويُنافقُون، أمَّا حُكامُ العصر، فليس كفرُهم كفرَ نفاق، وإنما هو كفر ظاهر.
س2) ماهي وثيقة "السلام العالمي"؟ وهل فيها ما يُخالفُ الإسلام؟.
وثيقةُ "السلام العالمي"، هي تشريعات تبلُغُ ثلاثين مادّة، وُضعت لدُول العالم، وأعلنتها هيئة الأمم المتحدة، في 10 ديسمبر 1948م. وتُسمّى أيضا بـ"الإعلان العالمي لحقوق الإنسان".
هذه التشريعات تُخالفُ الإسلام، بل وُضعت للحيلُولة دون قيام المُجتمع المسلم، حيثُ صوّرت عقيدة الإسلام وشريعته ظُلما يُخالف ويُضادُّ حقُوق الإنسان، وصوّرت الكُفر والفسُوق حُقُوقا إنسانيّة، تجبُ مُحافظتها على جميع دُول العالم. وإليك بعض المقتطفات منها:
1) جاء في مُقدّمتها:
"ولما كانت الدول الأعضاء قد تعهدت بالتعاون مع الأمم المتحدة على ضمان اطراد مراعاة حقوق الإنسان والحريات الأساسية واحترامها.
ولما كان للإدراك العام لهذه الحقوق والحريات الأهمية الكبرى للوفاء التام بهذا التعهد.فإن الجمعية العامة تنادي بهذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه المستوى المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم حتى يسعى كل فرد وهيئة في المجتمع، واضعين على الدوام هذا الإعلان نصب أعينهم، إلى توطيد احترام هذه الحقوق والحريات عن طريق التعليم والتربية واتخاذ إجراءات مطردة، قومية وعالمية، لضمان الاعتراف بها ومراعاتها بصورة عالمية فعالة بين الدول الأعضاء ذاتها وشعوب البقاع الخاضعة لسلطانها."
ففيه:
(1) أنّ جميع دُول الأعضاء قد تعهّدت على مراعاة ما يُسمُّونهُ بـ "حقوق الإنسان" و"الحريات الأساسية" واحترامها.
(2) أنّ الأمر ليس مُجرّد تعهُد، بل على جميع دُول الأعضاء، أن تتخذ هذه التشريعات هدفًا يضعُونهُ نصب أعينهم، ويسعون إلى توطيد احترام هذه الحقوق والحريات عن طريق التعليم والتربية.
(3) وأنّ على جميع دُول الأعضاء، اتخاذ إجراءات مطردة، قومية وعالمية، لضمان الاعتراف بها ومراعاتها بصورة عالمية فعالة بين الدول الأعضاء ذاتها وشعوب البقاع الخاضعة لسلطانها، فالمطلُوب من كُلّ دولة أن تكُون داعية إلى احترام هذه التشريعات وتطبيقها.
2) وجاء في (المادة 1):
"يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء."
ففيه:
(1) أنّ دُول الأعضاء كافرُون بما أمر اللهُ من إذلال الكفرة، وما أوجب من مُعاداتهم.
(2) أنّهم آمنُوا بأنّ المُؤمن والكافر سواءٌ في الكرامة، وسواءٌ في استحقاق التعامل بروح الإخاء.
وجاء في (المادة 3): "لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه".
ففيه:
(1) أنّ دُول الأعضاء كافرُون بما أمرهُ اللهُ من قتل الكافر في الجهاد، وقتل المُرتدّ، ورجم الزاني المحصن.
(2) وأنّهم مُقرُّون بأنّ الثلاثة لهم الحقُّ في الحياة والحرية وسلامة أشخاصهم.
وجاء في (المادة 4): "لايجوز استرقاق أو استعباد أي شخص، ويحظر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعهما"
ففيه:
(1) أنّ دُول الأعضاء كافرُون بما أباحهُ اللهُ من استرقاق الكفرة.
(2) وأنّهم مُقرُّون بأنّ هذا الحُكم الإلهي نسخهُ الحُكمُ الصادر من هيئة الأمم المتّحدة على الكُفرٍ، وأنّهم مُتَّبعُون بالحكم النّاسخ.
وجاء في (المادة 5): "لايعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة."
ففيه:
(1) أنّ دُول الأعضاء كافرُون بما أنزلهُ اللهُ في القرآن من العقُوبات، كقتل المرتدّ، ورجم الزاني، وقطع السارق، وقاطع الطريق.
(2) وأنّهم مُقرُّون بأنّ شريعة الله شريعة قاسية وحشية.
(3) وأنّهم مُقرُّون بأنّ "هيئة الأمم"، أرحمُ بالعباد من ربِّ العباد.
وجاء في (المادة 7): كل الناس سواسية أمام القانون ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة عنه دون أية تفرقة، كما أن لهم جميعا الحق في حماية متساوية ضد أي تميز يخل بهذا الإعلان وضد أي تحريض على تمييز كهذا.
ففيه:
(1) أنّ دُول الأعضاء مأمُورُون باتِّباع القوانين الوضعية، التي تجعلُ المؤمنين والكافرين سواسية أمام القانون، وتعطيهم حقُوقا متكافئة.
(2) وأنّهم مأمُورُون بأن يعملُوا، ضدّ دعوة الإسلام التي تُميِّزُ وتُفرِّقُ بين النّاس على أساس الدِّين، فتجعلُ بعض النّاس كُفارًا أو فُساقًا.
وجاء في (المادة 12): لا يعرض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو أسرته أو مسكنه أو مراسلاته أو لحملات على شرفه وسمعته، ولكل شخص الحق في حماية القانون من مثل هذا التدخل أو تلك الحملات.
وفيه:
(1) أنّ دُول الأعضاء مأمُورُون بعدم التدخُل بين النّاس، وبين الفواحش كالخمور، والزنا، والاختلاط بين الرجال والنساء.
(2) وأنّ عليهم حماية الفسق، وحماية الفاسقين من الطعن على شرفهم وسمعتهم. لأنّ الإنسان حُرٌّ، ويفعلُ ما يشاءُ في حياته الشخصية.
جاء في (المادة 13):
(1) لكل فرد حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل حدود كل دولة.
(2) يحق لكل فرد أن يغادر أية بلاد بما في ذلك بلده كما يحق له العودة إليه.
وفيه:
(1) أنّ دُول الأعضاء لا يحلُّ لهم أن يأمُروا أحدا بالهجرة، من بلد، لكونه بلد كُفرِ، أو فسق.
(2) و لا يحلُّ لهم أن يمنعُوا النَّاس من الهجرة والإقامة ببلدٍ لكونه بلد كُفرٍ، أو فسق.
وجاء في (المادة 14):
(1) لكل فرد الحق في أن يلجأ إلى بلاد أخرى أو يحاول الالتجاء إليها هرباً من الاضطهاد.
(2) لا ينتفع بهذا الحق من قدم للمحاكمة في جرائم غير سياسية أو لأعمال تناقض أغراض الأمم المتحدة ومبادئها.
وفيه:
(1) أنّ دُول الأعضاء لا يحلُّ لهم أن يُعطُوا الأمن، من هرب من الاضطهاد، إذا كان على أعمال تناقض أغراض الأمم المتحدة ومبادئها.
والمراد إذا كان متمسكا بدين الإسلام. لأنّ المتمسك بالإسلام:
(أولا) يُناقض أغراض الأمم المتحدة ومبادئها، لما اعتقد صحّة شريعة الله وبطلان شريعة الأمم المتّحدة.
(ثانيا) لما آمن بأنّ الكرامة لأهل الإيمان، وأنّ الذلّة لأهل الكُفر.
(ثالثا) لما آمن بصحّة مبدأ التمييز بين النّاس على أساس الدين.
(رابعا) لما آمن بضرُورة إقامة حدُود الله، وقتل المرتدِّين، ورجم الزناة المحصنين، وقطع السرّاق وقطاع الطُرق.
وجاء في (المادة 16):
(1) للرجل والمرأة متى بلغا سن الزواج حق التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين، ولهما حقوق متساوية عند الزواج وأثناء قيامه وعند انحلاله.
وفيه:
(1) أنّ دُول الأعضاء عليهم أن يكفرُوا بالقرآن، الذي يُحرّم زواج المسلمة من كافر، ويُحرّمُ زواج المسلم من بعض الكافرات، كالمشركات من غير أهل الكتاب.
(2) وعليهم أن يُخالفُوا شريعة الله، التي تُحرِّمُ أن تُزوِّج المرأة نفسها، وأن يتّبعُوا شريعة الأمم المتّحدة، التي تُلغِي الوليّ من شرُوط النكاح.
وجاء في (المادة 18):
لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة.
وفيه:
(1) أنّ دُول الأعضاء عليهم أن يُعطُوا النَّاس حقّ "تغيير الدين"، متى شاؤا، وأن لا يعتبرُوا ذلك ذنبا، وأن يقضوا على العقُوبة في الردَّة التي جاء بها الإسلامُ، ولا يُدخلُوها في الدساتير.
(2) وعليهم كذلك أن يُعطوا المُرتدّ وغيره، حُرِّية نشر عقيدته، وإقامة شعائر دينه الذي يراهُ صوابا، سرًّا وجهرًا.
وجاء في (المادة 19): لكل شخص الحقّ في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.
وفيه:
(1) أنّ دُول الأعضاء عليهم أن يُدافعُوا من اعتنق رأيا وأذاعهُ، ولو كان هذا الرأيُ كُفرا صريحًا، وإهانة لنبيّ الإسلام، أو شريعة الإسلام.
(2) وأنّ الدولة إذا لم تفعَلُ ذلك، تكُونُ مُتعدّية على حُقُوق الإنسان.
وجاء في (المادة21):
"إن إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة، ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجري على أساس الاقتراع السري وعلى قدم المساواة بين الجميع أو حسب أي إجراء مماثل يضمن حرية التصويت.
وفيه:
(1) أنّ دُول الأعضاء عليهم أن يُقيمُوا دولة "علمانية"، تكُونُ إرادة الشعب هي مصدر سلطتها. أيْ:
= السُلطة التشريعية تكُون بيد نواب "البرلمان"، الذين اختارهُم الشعبُ.
= والسلطة التنفيذيّة تكُونُ بيد الرئيس الذي اختارهُ الشعبُ، ووزرائه، وعليهم أن يعملُوا بشريعة "البرلمان".
= والسلطة القضائية تكُونُ بيد القضاة العاملين بأحكام شريعة "البرلمان".
(2) أنّ دُول الأعضاء لا يحلُّ لهم أن يُقيمُوا دولة تستمدُ سُلطة تشريعها من دين الله. وإلا يكُونُوا معتدين على حُقُوق الإنسان.
وجاء في (المادة 26):
(2) يجب أن تهدف التربية إلى إنماء شخصية الإنسان إنماء كاملاً، وإلى تعزيز احترام الإنسان والحريات الأساسية وتنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات العنصرية أو الدينية، وإلى زيادة مجهود الأمم المتحدة لحفظ السلام.
وفيه:
(1) أنّ دُول الأعضاء عليهم أن يضعُوا مناهج للتربية، تستهدفُ نزع العقيدة في الله، والبراءة من أهل الكُفر من القلوب، لإخراج أجيال من النّاس بينهم مودّة وصداقة، وليس بينهم تمييز على أساس الدّين.
(2) وأنّهم يعتقدُون أنّ شخصية المسلم ناقصةٌ، لأنّهُ لا يحترمُ الإنسان الكافر والفاسق، ولا يُريدُ تحقيق التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب، على اختلاف الأديان.
س3) ما هي أعظمُ المُكفِّرات التي في الدساتير الوضعية؟.
"الدستور الوضعي" عبارة عن كتاب مُستقلٍّ عن كتاب الله ومُعارضٍ لهُ، أُعدَّ ليكُون للأمّةِ مرجعاً يُنظمُ لهم حياتهم، ويفصلُ بينهم فيما اختلفُوا فيه.
وإليك بعض الأمثلة الدالَّة على معارضة الدستُور لكتاب الله وردِّه الصريح له:
1) كتابُ الله يدعُوا إلى إفراد الله سُبحانهُ بالحُكم والتشريع بين النَّاس، أمَّا الحُكام فمنفذُون، وليسُوا بمُشرِّعين.
والدستُور يأبى ذلك، ويقُولُ: "الأمَّة هي مصدرُ السلطات والتشريع، وتُزاولها بواسطة مُمثليها". أي: أنّ الشريعة الواجبة هي ما شرَّعهُ نُوابُ البرلمان دون ما شرعهُ الله.
2) كتابُ الله يدعُوا إلى اتِّخاذ ما ثبت في الكتاب والسُنّة شريعة، وإن كان القائل به فرداً واحداً، وما خالفهُ مردود. والدستُور يأبى ذلك، ويقُولُ: " ما ثبت بأغلبية النُّواب هو الشرع الواجب، وما خالفهُ مردود".
3) كتابُ الله يُحرِّمُ الحُكمُ بين النَّاس بغير ما أنزل اللهُ، ومُعاقبة النَّاس بعُقوبات ليست في كتاب الله. والدستُور يأبى ذلك، ويقُولُ: لا يجُوزُ الحُكمُ بين النَّاس بغير ما في القانُون الوضعي، ولا تجُوزُ مُعاقبة أحد بعُقوبة ليست في القانُون الوضعي.
4) كتابُ الله يُقرِّرُ أنَّ البشر عبادُ الله، ولا يحلُّ لهم مُخالفة أوامر الله.
والدستُور يأبى ذلك، ويقُولُ: "النَّاسُ أحرارٌ، والكُفر والعصيانُ لا يُسقط عنهم حُقُوقهم، لكن لا يحلُّ لهم مُخالفة الدستُور".
5) كتابُ الله بيَّن أنَّ "الحقُوق والواجبات الشرعية"، هي ما ثبت في الكتاب والسُنَّة، وبيَّن أنّ الذكر فيها ليس كالأنثى في كلِّ شيء. والدستُور يأبى ذلك، ويقُولُ: "الحقُوق والواجبات الشرعية هي ما ثبت في الدستُور والقانُون، والذكرُ فيها كالأنثى في كلِّ شيء.
6) كتابُ الله بيَّن أنَّ "الحقُوق والواجبات الشرعية" هي ما جعلهُ الكتاب والسُنَّة حقُوقا وواجبات، وبيَّن أنّ المُسلم فيها ليس كالكافر. والدستُورُ يأبى ذلك، ويقُولُ: "الحقُوق والواجبات" الشرعية هي ما ثبت في الدستُور والقانُون، والمُسلم فيها كالكافر.
7) كتابُ الله بيَّن أنّ الَّذين يجمعُهم "الدين الإسلامي" إخوةٌ من دون النَّاس، وإن اختلفُوا في الوطن واللغة واللون". والدستُورُ يأبى ذلك، ويقُولُ: "إنَّ الَّذين يجمعُهم الوطنُ إخوةٌ من دون النَّاس، وإن اختلفُوا في الدِّين".
8) كتابُ الله يأمُرُ ببُغض الكُفار ومُعاداتهم في الله، ومُجاهدتهم على حسب المقدرة. والدستُورُ يأبى ذلك، ويأمُرُ بمبدأ "التعَايُش السلمي" مع الكُفار، وإنهاء الخلافات بالمُفاوضات السلمية.
9) كتابُ الله يجعلُ خيرات الأرض من مال الله، ولا يأذنُ لأحد الانتفاع بها بطريقة تُخالفُ كتاب الله. والدستُورُ يجعلُ خيرات الأرض من مال المُواطنين، ولا يأذنُ لأحد الانتفاع بها بطريقة تُخالفُ الدستُور، وإن وافقت كتاب الله.
10) كتابُ الله يجعلُ سبَّ الدِّين كُفراً وردّة عن الإسلام. والدستُور يجعلُهُ أمراً هيِّناً لا يستحقُّ العُقُوبة، إلا إذا كان ذلك في الأماكن العامّة فيُعاقبُ بعقُوبة خفيفة.
11) كتابُ الله يجعلُ القتل عُقُوبة لبعض الذنُوب كالردَّة بأنواعها والزنا واللواط وقطع الطريق. والدستُورُ يحرِّمُ العُقُوبة بالقتل إلا في القتل وقلب نظام الحُكم.
12) كتابُ الله يأمُرُ بقتل المُرتدّ عن الإسلام. والدستُورُ يأمرُ بإحيائه، ويُعلنُ حُرِّية الأديان، والتنقُل بينها، ويعتبرها من الحُرِّيات الشخصية.
13) كتابُ الله يأمُرُ برجم الزاني المُحصن، وجلد من لم يُحصن. والدستُورُ لا يعتبرُ الزنا ذنباً إلا في الاغتصاب أوالاحتراف.
14) كتابُ الله يأمُرُ بجلد القاذف إذا لم يُقم البينة العادلة، والدستُور ألغى ذلك.
15) كتابُ الله يأمُرُ بقطع يد السارق، والدستُور ألغى ذلك.
16) كتابُ الله يأمُرُ بالقصاص في القتلى أو الدية أو العفو، والدستُور ألغى الدية والعفو.
17) كتابُ الله يأمُرُ بالقصاص في الجروح أو الدية، والدستُور ألغى القصاص والدية جميعاً .
18) كتابُ الله يأمُرُ بجلد شارب الخمر، والدستُور ألغى ذلك، واستثنى من ذلك من سكر في الأماكن العامة، فجعل عُقوبتهُ حبسا أو غرامة.
19) كتابُ الله يرفعُ القلم عن الغُلام حتى يحتلم، والدستُور ألغى ذلك، واتَّبع الغربيين في اعتبار حدّ البُلوغ سنِّ الثامنة عشرة.
20) كتابُ الله يأمُرُ بإقامة الحدّ على الشريف والوضيع، واليهُود كانُوا لا يُقيمُون الحدود على الأشراف، فأيَّد الدستُور سُنَّة اليهُود، حيث ألقى المسئولية عن الرئيس في كُل ما يرتكبُهُ، إلا إذا ألغى الدستُور أو قلّب نظام الحُكم.
21) كتابُ الله يأمُرُ بالتوبة من العمل بالأحكام الجاهلية، والدستُور يُوجبها، بل يُؤكدُ ذلك بالقسم عليه، فالرئيس والوزير والنُّواب عليهم أن يُقسمُوا بالله على العمل بالدستور بإخلاص.
وهذه الأمثلة كافية لفهم مُعارضة الدستُور لنصُوص الكتاب العزيز، وليس هذا خاصا بدستُور الصُومال، بل كُلُّ البلاد الّتى كانت في القديم "إسلامية"، ثُمّ صارتْ "علمانية"، تعملُ اليوم بمثل هذا الدستُور الكُفري، وليس بينها خلافٌ إلا في العبارات، أو التفريعات.
ولقد صار إبليسُ اللعينُ كافراً بأقلَّ من ذلك، ردَّ أمراً واحداً هو: "اسجدُوا لآدم"، فكان ما كان من تكفيره وطرده من رحمة الله.
فكيف بمن ردّ على الله في عشرين موضعا!!. فكيف بمن ردَّ الكتاب جُملة وتفصيلا.
س4) هل يُمكن أنْ يكُونُوا معذُورين بالاستضعاف؟
جـ4) إذا خُيِّر المُسلمُ بين القتل وبين الكُفر، وجب عليه اختيار القتل، لأنّ الإيمان أغلى من الحياة. وفي القرآن ذكر جواب سحرة فرعون لما آمنُوا وهدّدهم فرعونُ بالقتل، اختارُوا الصبر على الحقّ، وإن أدّى ذلك إلى القتل.
قال تعالى: ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى. قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى. قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ (طه: 70-73)
فلا يحلُّ لمسلم أن يكفُر ليحيى، بل بيّن القرآنُ أنّ فاعل ذلك، لم يكُن مُؤمنا ابتداء، وإنّما كان منافقا، أيْ: مُسلما باللسان. قال اللهُ تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ. وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ (العنكبوت: 10-11)
ولا يُعارضُ هذا ما أباحهُ الله من التكلّم بالكُفر، لمن وقع تحت الإكراة، أو خاف في بعض البُلدان، فإنّ هذا شأنٌ عارضٌ، قد لا يتجاوز دقائق أو ساعات، ولا ينشأُ منهُ العملُ بالكُفر، أو تطبيقُهُ في واقع الحياة.
والمُسلمُ المُستضعفُ هو من لم يكفُرْ، وإنّما عجز عن إظهار دينه بين الكفرة، أو عجز عن إظهار بعض شعائر دينه. كما كان بعضُ الصحابة يُخفُون إسلامهم في مكّة، دون أن يعملُوا بالكُفر. وهذا ليس ما عليه حُكامُ العصر، فإنّهم يكفُرُون ليحكُمُوا، لا ليحيوا. ولو كان الكُفر في مقابل الحياة ما جاز للمسلم أن يكفُر، فكيف وهو في مُقابل الحُكم.
س5) هل الخرُوج من طاعة الإمام إذا كفر، مسألةٌ خلافية، أم فيها إجماع؟
جـ5) قال النووي في "شرح مسلم"، عن هذا الحديث:
قال القاضي عياض: "أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه كفر انعزل وقال كذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها".
قال: "قال القاضي: "فلو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج من حكم الولاية وسقطت طاعته ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر".
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "وقد تقدم البحث في هذا الكلام على حديث عبادة في الأمر بالسمع والطاعة "إلا أن تروا كفراً بواحاً" بما يغني عن إعادته وهو في (كتاب الفتن)، وملخصه: أنه ينعزل بالكفر إجماعاً، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك، فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض".
س6) ما حُكمُ الاشتراك في المجلس التشريعي (البرلمان)؟
جـ6) الاشتراك في المجلس التشريعي، هو اشتراكٌ في الكُفر الأكبر، وذلك من وجهين:
(الأول) إنّهم يُعلنُون أنّ مجلسهم مجلسُ تشريع، فيُصدرُون تشريعات برأي الأغلبية، سواء وافقت شريعة الله أم لم تُوافق. والتشريعُ حقٌّ لله وحده، لا شريك لهُ.
قال اللهُ تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ (الشورى:21)
(الثاني) إنّهم يُعلنُون أنّ مجلسهم ديمقراطيّ، والديمقراطيةُ شريعة جاهلية، مخالفة لشريعة الإسلام. وتاركُ شرعِ اللهِ إلى شرْعِ غيره، فقد خرج من أصلِ الإيمان إلى نقيضه، وهو الكفر.
س7) ما هي الديمقراطية؟ وما هي العلمانية؟
جـ7) الديمقراطية: هي مذهبٌ جاهليٌّ جاء به الوثنيُّون الإغريق، ثُمَّ عمل به الرُّمانيُّون. والديمقراطيةُ لها أصُولٌ مُخالفة لأصُول الإسلام الحنيف. ومن أصُولها:
1) الحُكم للشعب: وهذا الأصلُ يردُّ الأصلَ الذي يقُومُ عليه دينُ الله الذي هو: "الحُكمُ للّه".
قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف:40)
2) اتِّباع رأي الأغلبيّة: وهذا الأصلُ يردُّ الأصلَ الذي جاء به الإسلام، الذي هو: "اتِّباع الحقّ والدليل، وإن قلّ أهلُه".
قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الجاثية:18)
3) الحُرّيةُ الشخصية: ويستحلُّون به الكفر والفواحش، وهذا الأصلُ يردُّ الأصلَ الذي جاء به الإسلام، الذي هو: "العبودية المطلقة لله".
قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (يونس: 104-105)
4) التسوية المطلقة بين النّاس في الحقوق والواجبات: فسوَّوا بين المُؤمن والكافر، وبين الذكر والأنثى. وهذا الأصلُ يردُّ الأصلَ الذي جاء به الإسلام، الذي هو: "ليس المُؤمن كالكافر"، و"ليس الذكرُ كالأنثى".
قال تعالى: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ. مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ (القلم 35-36)
فهي دينٌ وضعيٌ مُخالفٌ لدين الله ويُضادُّهُ، ثُمّ هي كانت قبل عيسى ومُحمّد عليهما الصلاة والسلام، ولم يأمُرا بالعمل بها، بل كانت مما يهدمهُ الإسلامُ من النّظريات والعادات الجاهلية.
والعلمانية: هي فصل الدّين عن الدولة، والتحرُّر من قُيُود الشريعة الإلهية، واتِّخاذ الفكر والعقل البشري إلها معبُودا من دون الله. ومن آمن بالعلمانية استحلّ العمل بالديمقراطية والقوانين الوضعية البشرية. فهي مُضادّةٌ لدين الله، ولا يتّبعها إلا الملاحدة والكافرُون.
س8) ما ضررُ الجلُوسِ في (البرلمان)، إذا كان الجالسُ يُنكرُ ما خالف الإسلام؟
جـ8) لا يجلسُ أحدٌ في (البرلمان) إلا وقد رضي بالمبدإ الديمقراطيّ الكُفري القائل: "الشريعةُ تُصدرُ برأي الأغلبية"، فمن رضي بهذا المبدإ، ودخل (البرلمان) بعد موافقته على ذلك، فقد كفر، والكافرُ كافرٌ وإن قال الحقَّ في مجلس الكُفر، حتى يتُوبَ من الكُفرِ.
فإن طُرح في (البرلمان) إصدار قانُون بشأن الزاني المُحصن مثلا، فإنّ المجلس كلّهُ مُتّفقٌ على أنّ هذا القانُون سيكُونُ ما تختارُهُ الأغلبية. فمن قال: "أرى أن يُرجمَ"، فقد قال الحقّ، ولكنّهُ كان قد رضي قبل ذلك بالانقياد لحُكم الأغلبية، وإن كان كُفرًا.
وبعد التصويت إذا كان رأيُ الأغلبية "تركُ الرجم"، فإنّ ذلك سيكُونُ من شريعة الوطن، لأنّ الأغلبية صوّتت على ذلك، ومن لم يقُلْ به، كان موافقا بمبدإ الإصدار برأي الأغلبية، وإن كان كُفرًا، فهو مُلزمٌ باتّباعه، وهو من المُشرِّعين.
س9) هل في خبر تولِّي يُوسف عليه السلام خزائن أرض مصر، في زمن الملك الكافر، وخبر بقاء النجاشي بعد إسلامه، على مُلك الحبشة النّصرانية، ما يدلُّ على جواز قيادة الدولة العلمانية، أو العمل في "البرلمان" العلماني؟
جـ9) ليس في الخبرين ما يدلُّ على جواز ذلك، وليس في دين الله تناقضات، ولكنّ أهل الهوى يتشبَّثُون بما هو أوهى من بيت العنكبُوت، للتفلُّت من تكاليف الإيمان. ومن شأن العالم المفتُون، أن يعُودَ إلى الشريعة بالتحريف، لتُجاري هواه وشهواته.
ويكفي المسلم من ذلك أن يتذكّر:
(أولا) أنّ يُوسف عليه السلام كان من رسل الله، الذين دعوا إلى التّوحيد واجتناب الطاغُوت.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ (النحل:36)
وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء:25)
وأنّهُ كان يدعُو إلى ذلك وهو مسجُون، ويبيّن لأهل مصر أنّ ذلك الملك الذي اتخذتموه ربّا ليس بربّي لكنّ ربّي هو الله، وله العبادة خالصة وإنّني أتّبع دينه وشريعته.
جاء في سُورة يُوسف قوله تعالى مُخبرا عن قول يوسف عليه السلام:
﴿إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ. يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ. مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا للهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 37-40)
وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ (يوسف:50)
(ثانيا) أنّ يوسف عليه السلام، كان مطلُوبا، ولم يكن طالبا، حيثُ قال الملكُ: ﴿ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾ (يوسف:54)،
وأنّ سبب الطلب كان ما اشتهر من علم يُوسف وتقواه. وأنّ يوسف عليه السلام لما رأى كيف مهّد اللهُ لهُ الأمُور، وألان له قلوب النّاس، ومنهم الملك، عرف أنّهم يسرُّهم أن يتولّى سلطة البلاد لأمانته وعلمه، مع ماكانُوا يتوقعُونه من خطُورة السنوات العجاف القادمة. وكان في هذا التولّي لسلطة البلاد هداية العباد، وانتشار الإسلام.
قال تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ. قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ. وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ (يوسف: 54-57)
وقد ذكر المفسِّرُون أنَّ يوسف عليه السلام، كان حُرّا في تصرُّفه، ولم يذكُرْ أحدٌ منهم، أنّه كان يعمل بشريعة باطلة حرصا على مركز دنيويّ. بل لا يجُوز أن يُظنّ مثل ذلك بالمسلم العادي، فكيف برسُول الله.
قال الطبري: قال ابن زيد، في قوله: اجْعَلْنِي على خَزَائِنِ الأرْضِ قال: كان لفرعون خزائن غير الطعام، قال: فأسلم سلطانه كله إليه، وجعل القضاء إليه، أمره وقضاؤه نافذ.
وقال: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: "يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ قال: ملكناه فيما يكون فيها حيث يشاء من تلك الدنيا، يصنع فيها ما يشاء، فُوِّضَتْ إليه. قال: ولو شاء أن يجعل فرعون من تحت يديه، ويجعله فوقه لفعل.
وقال: حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو، قال: أخبرنا هشيم، عن أبي إسحاق الكوفي، عن مجاهد، قال: أسلم الملك الذي كان معه يوسف.
وقال الشوكاني: ﴿وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُف﴾ أي: ومثل ذلك التمكين العجيب مكنا ليوسف في الأرض أي: جعلنا له مكاناً، وهو عبارة عن كمال قدرته ونفوذ أمره ونهيه حتى صار الملك يصدر عن رأيه، وصار الناس يعملون على أمره ونهيه.
فقد فهم المفسِّرُون أنّ الغرض من طلب يوسف عليه السّلام: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ﴾ [يوسف: 55]. هو إقامة النظام الإسلامي، وتولِّي كافة مصادر ومقاليد البلاد، وأنَّهُ نال ذلك. وهذا هو ما يتطلّبهُ الفهم الصحيح الكامل للدّين والنبوة.
فيُستفادُ من قصّة يوسف عليه السّلام، أنّ أهل الجاهلية إذا تأثّرُوا بدعوة الداعية المسلم، وأبدوا التنازل عن السلطة له، ليحكم بما يراهُ حقّا، بدون تدخل منهم، أنّه يجُوز له أن يتولّاها، وأن يستخدم السلطة في تبليغ الحقِّ وإقامة النِّظام الإسلامي.
(ثالثا) إنّ مثل يوسف عليه السّلام، كمثل رجل رأى أنّ النَّاس على الضلال، لاتّخاذهم البشر أربابا مُشرِّعين من دون الله، فجهر بالدعوة إلى الله، وأخبرهم أنّهم مشركُون بالله، وأنّ عليهم التّوبة من الشرك، واعتناق الإسلام والتّوحيد، فأحبُّوهُ وقرّبُوه، وهم على علم بأنّهُ لا يتنازلُ عن دينه وعقيدته، فعرض عليهم أن تكُون خزائن الأرض على يديه، وأن يكُون أمرهُ وقضاؤه نافذا فيهم، فرضوا بذلك، ثمّ أسلمُوا واتَّبعُوه.
وإنّ مثل العالم المنحرف الجالس في مجالس تشريع العلمانيين، كمثل رجل رأى أنّ النَّاس على الضلال، لاتّخاذهم البشر أربابا مُشرِّعين من دون الله، فخان العلم والأمانة، وأخبر النّاس أنّهم على الهدى، وأنّ هذا الشرك، وهذا التشريع من دون الله، لا يضرُّ بدينهم. ثُمّ طلبَ منهم المشاركة في شرك التشريع والتنفيذ، فأذنُوا لهُ بشرط أن يحترم التشريع الوضعي، وينقاد له، فقبل ذلك.
إنَّ العاقل لا يُخطئُ في فهم الفرق الّذي بين المثلين، كما لا يُخطئُ في معرفة افتراء العالم المنحرف المفتُون، لمّا شبّه موقفهُ بموقف يوسف عليه السّلام. إنّ الذي خان الأمانة، وأفتى بأنّ المُشرِّعين من دون الله مسلمُون، لا يستحيي من القول بأنّ رسل الله كانُوا يُطيعُون الكفرة في تشريع الكفر وتنفيذه.
وليس في قصة "النجاشي" ما يُصلحُ متمسكا لأهل الانحراف، فإنّهُ كان ملكا نصرانيّا فأسلم، فبقيت النّصارى في طاعته. ويدلُّ على إسلامه ما جاء في صحيحي البخاري ومسلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة الغائب عندما تلقّى نبأ وفاة النجاشي فقال: «مات اليوم رجل صالح فقوموا فصلّوا على أخيكم أصحمة».
وتصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه كاف في معرفة أنّهُ كان مُتّبعا لما بلغه من دين الإسلام، وأنّه كان مُتبرّئا من النصرانية دين أسلافه، ومن تبرّأ من دين لهُ أصلٌ سماويّ، لا يرضى بدين وضعهُ أهلُ الأرض. وبقاءُ النصارى في سلطانه لا يضرُّ بدينه.
وشريعة الإسلام تبيحُ بقاء الكفار من أهل الذمّة في سلطان الدولة المسلمة بشرُوط. كما تبيح أخذ الجزية من الممالك الكافرة وترك بلادهم لهم أحيانا. وإذا ثبت أنّ "النجاشي" وإن كان يعملُ بطاعة الله، لم يضع الجزية على النّصارى، فإنّ المانع من ذلك هو عدم التمكُّن من العلم، أو عدم القدرة على العمل، ومعلُوم أنّ نزول الجزية كان مُتأخرا.
(رابعا) إنّه لا دين لمن ظنّ أنّ الله متناقض في أقواله، فمرّة يأمر عبيده باجتناب الطواغيت والكفر بِهم وجهادهم والقضاء على فتنتهم المتمثلة في سلطانِهم الدّولي. ومرّة أخرى يأمر بطاعة الدّولة الحاكمة وإن كانت كافرة. ومرّة يقول إنني أنا الملك القاهر الذي يجب أن يطاع وحده وتتبع شريعته، ومرّة يقول إنّي أرسلت رسولاً وأمرته أن يطيع الحاكم الكافر وينفّذ شريعته تنفيذاً كاملاً.
س10) ما حُكمُ التَّحاكم إلى الطاغُوت؟
جـ10) التحاكم: هو إسنادُ القضاء إلى حاكم، والرضى بفصلِ النزاع القائم بين النَّاس بحُكمه.
والتحاكم إلى الطاغُوت: هو إسنادُ القضاء إلى الطاغُوت، والرضى بفصلِ النّزاع بحُكمه.
والتحاكُم إلى الطاغُوت كُفرٌ يزولُ به الإيمان والتَّوحيد، لأنَّ الحُكم والأمر لله، ومن أفرد ذلك لله وانقاد لأوامره وأحكامه فهُو المُسلمُ المُوحِّد، الَّذي على دين الله القيّم، ومن قدَّم حكم غير الله على حُكم الله فقد أشرك في عبادة الله.
قال الله تعالى: ﴿إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه، ذلك الدِّينُ القيِّمُ ولكنَّ أكثر النَّاس لا يعلمُون﴾ (يوسف:40)
وقال: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ (المائدة:44)
وقال: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء:65)
ويكفرُ المرء المُسلم بمجرَّد إرادة التَّحاكم إلى الطاغُوت، ويصيرُ إيمانُهُ زعماً لا حقيقة له.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا﴾ (النساء:60)
ومن أراد وتحاكم بالفعل أولى بالذَّمِّ والتكفير ممن أراد ولم يفعل.
ولا يُشترطُ للمُتحاكم اعتقادُ أنَّ شريعةَ الطاغُوت أفضلُ من شريعة الله أو أنَّها واجبة الاتِّباع، بل يصيرُ مُتحاكماً بفعل التَّحاكُم، ويكفُر بمجرَّد الإرادة، ولو لم يقصُد أن يكفُرَ.
قال الإمام ابن تيمية في الصَّارم المسلُول: "وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر كفَرَ بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافراً؛ إذ لا يقصد الكفر أحدٌ إلا ما شاء الله" (اهـ).
وقال الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى "فَإِن تَنَـٰزَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ":
قال: "أي: ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم "إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ" فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر"
ومن كان في الظاهر مُسلماً، فظهرت إرادتُهُ للتحاكم إلى الطاغُوت، صار مُنافقًا إذا كان يُبدي الرجُوع، ويعتذرُ باعتذارات كحُسن القصد. أمَّا المُصرُّ المُتمادي فهو يرتدُّ بذلك:
قال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا. أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا" (النساء:62-63)

الخامس) لكُلِّ طائفة مُمتنعة حُكمٌ شرعيٌّ)

(الخامس) لكُلِّ طائفة مُمتنعة حُكمٌ شرعيٌّ

س1) ما المُرادُ بالطائفة؟
جـ1) الطائفة -في اللغة- الجماعة، أو قسم من جماعة، ولا حد لأكثرها، واختُلف في أقلّها. جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾.
قال عطاء: أقله رجلان. وعن الزهريّ، قال: الطائفة : الثلاثة فصاعدا.
وقال مُجاهد: الطائفة واحد إلى الألف، ﴿وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمنِينَ اقْتَتَلُوا فأَصْلِحُوا بَيْنَهُما﴾. (من تفسير الطبري)
وقال الطبري: "والطائفة: قد تقع عند العرب على الواحد فصاعدا."
س2) ما الفرقُ بين الطائفة، والقبيلة، والأمّة؟
جـ2) الأسرةُ أو الجماعة الصغيرةُ طائفةٌ من العشيرة. والعشيرةُ طائفةٌ من القبيلة. والقبيلةُ طائفةٌ من الأمّة. والأمّةُ طائفةٌ من البشر.
قال جابر بن عبد الله: فينا نزلت ﴿إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلا﴾ الآية، قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة.
وعن مجاهد، قوله: ﴿وَإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ قال: الأوس والخزرج اقتتلوا بالعصيّ بينهم. (الطبري)
س3) ما المرادُ بالطائفة المُمتنعة، وهل تُوصفُ بإيمان أو كُفرٍ أو فسق؟
جـ1) الطائفة المُمتنعة هي كُلُّ طائفة بين أفرادها تناصُرٌ وولاء، وقد جعل الإسلامُ لها حُكمًا كُلّيّا، فيُقالُ: "هذه طائفة مُسلمة"، أو"هذه طائفة كافرة"، أو "مُرتدّة"، أو "فاسقة"، أو "باغية".
ووصفُ الطائفة بالإيمان وردَ في قوله تعالى: ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾. (النُّور:2)
وقوله: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾. (الحجرات:9)
ووصفُ الطائفة بالكُفر وردَ في قوله تعالى: ﴿فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ﴾. (الصفّ:14).
ووصفُ الطائفة بالبغي وردَ في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ (الحجرات:9)
وورد في مواضع كثيرة وصفُ القوم أو القرية بالكُفرِ، أو الظُلم، أو الفسق. كالآيات الآتية:
= ﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ (النمل:43)
= ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا﴾. (النساء:75)
= ﴿قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (21)
= ﴿سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ (الأعراف:145)
س4) ما الدليلُ على أنَّ الفرد يُعاملُ بأحكام طائفته، ويُصيبهُ ما أصابهم؟
جـ4) أدلّتها كثيرة جدًّا، وهي من القرآن، والسنَّة، والسيرة، وإليك بعضها:
(الدليلُ الأول) هو الآيات الكثيرة الدالّة على أنّ حُكم التّابع هو حُكم المتبُوع في الدُنيا والآخرة، كالأمثلة الآتية:
وقال: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ (الزخرف: 54)
وقال تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ (الإسراء: 16).
وقال تعالى: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾ (الأحزاب: 67-68).
فتبيَّن من الآيات أنَّ الملأ المُستكبرين وإن كانُوا سبب تدمير القرى، إلا أنَّ الله تعالى لم يُبرِّئ الأتباع، ولم يجعلهم ناجين، بل شاركُوا الملأ فى الحكم، والوصف، والإثم، وعقوبة الدنيا والآخرة. وإذْ لم يفرّق الله -عزَّ وجلَّ- بين "السادة" و"الأتباع" فى الأحكام، فاتّخاذ التفريق بين الصنفين سبيلا ضلالٌ عن صراط الله المستقيم، وردٌّ لدين الله القويم.
(الدليلُ الثاني) ما جاء في السنّة فيما لا حصر له من الأحاديث، التي فيها وصفُ القبيلة بالإيمان والصلاح، أو بالكفر والفساد. وإليك بعض الأمثلة:
1) كان النّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، يدعُو الله لبعض القبائل لأجل إيمانهم وصلاحهم، كقوله: "أسلم سالمها اللهُ" و"غفار غفر اللهُ لها". وكان يدعُو على بعض القبائل لكفرها وفسادها، كما دعا على رعل وذكوان وعصيّة، قال: "عصت الله ورسُوله".
2) قال حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ رضي الله عنهُ: "كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللّهِ عَنِ الْخَيْرِ. وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ. مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرَ. فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الْخَيْرِ. فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: "نَعَمْ" (متّفق عليه)
فلم يُنكِرْ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على حُذيفة، فهو تقرير يدلُّ على صحّة إطلاق الشرّ والجاهلية على أهلِ الشرك والطوائف الكافرة.
3) وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ قالُوا للنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَا رَسُولَ اللّهِ! إِنَّا نَأْتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ، وَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هذَا الْحَيَّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، وإنّا لا نَسْتَطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام...إلخ". (متّفق عليه) وفيه: إطلاق الكُفر على قبائل مُضر.
4) عَنِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: كَانَتْ ثَقِيفُ حُلَفَاءَ لِبَنِي عُقَيْلٍ، فَأَسَرَتْ ثَقِيفُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ، وَأَسَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ رَجُلاً مِنْ بَنِي عُقَيْلٍ، وَأَصَابُوا مَعَهُ الْعَضْبَاءَ، فَأَتَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ وَهُوَ فِي الْوَثَاقِ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ فَأَتَاهُ، فَقَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟" فَقَالَ: بِمَ أَخَذْتَنِي؟ وَبِمَ أَخَذْتَ سَابِقَةَ الْحَاجِّ؟ فَقَالَ (إعْظَاماً لِذلِكَ) "أَخَذْتُكَ بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكَ ثَقِيفَ" ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ رَحِيماً رَقِيقاً، فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟" قَالَ: إنِّي مُسْلِمٌ، قَالَ: "لَوْ قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ، أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلاَحِ" ثُمَّ انْصَرَفَ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ فَأَتَاهُ فَقَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟" قَالَ: إنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي، وَظَمْآنُ فَأَسْقِنِي، قَالَ: "هذِهِ حَاجَتُكَ"، فَفُدِيَ بِالرَّجُلَيْنِ. (رواه مسلم).
وفيه: أنَّ الفرد المجهُول من القبائل الكافرة، كان يُعاملُ معاملة الكافرين إلا إذا كان قد أعلن إسلامه قبل الوقُوع في أسر المسلمين.
5) وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ نَبِيَّ اللّهِ قَالَ: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْساً. فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ. فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْساً. فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لاَ. فَقَتَلَهُ. فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً. ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ. فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ. فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا. فَإِنَّ بِهَا أُنَاساً يَعْبُدُونَ اللّهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ. وَلاَ تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ" (مُتّفق عليه)
قولهُ: (فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ) المراد هو أهل الأرض، ولكثرة سيِّئاتهم صارت أرضهم أرض سُوء.
(الدليلُ الثالث) قد عُلم من سيرته صلى الله عليه وسلم ، وخلفائه والأمراء من بعدهم، أنّهم كانوا يغزُون القبائل الكافرة، ويقتلون المجهُولين من أبنائها، فدلّ ذلك على أنَّ حُكمَ القوم يجري على الفرد، ما لم يُظهرْ خلاف ما عليه قومه قبل القتال.
وكانوا إذا صالحوا ملكاً كافرًا، واتّفقوا معه على عهدٍ، تركوا له رعيته وحقنوا دماءهم بالعهد. وإذا حاربهم ملكٌ أو سيدُ قبيلة وظهروا عليه كانوا يستبيحون كل شيء في مملكته، ويكون ذلك غنيمة للمسلمين. ولم يكونوا يقولون: ما ذنب النساء والأطفال فإنّهم لم يقاتلوا ولم يكن لهم رأيٌ في الحرب والسلم. فدلّ ذلك على أنَّ حُكمَ القوم يجري على الفرد، ما لم يُظهرْ خلاف ما عليه قومه قبل القتال.
وقصة خالد بن الوليد ومجاعة بن مرارة معرُوفة، وهي أنّهُ لما ارتدّت بنُو حنيفة، وغزاها المسلمُون بقيادة خالد، لقي بضع وعشرين رجلا، فلما انتسبُوا إلى بني حنيفة، أمر خالد بقتلهم، فقُتلُوا غير "مجاعة" وآخر. فادّعى مُجاعة أنَّهُ مُسلمٌ، فلم يقبلْ منه خالد.
وقال لهُ خالدٌ ما معناهُ: لقد خرجت من الإسلام، لأنّك لم تكُن مستضعفا، وكُنت سيّد قومه، فلم تُنكرْ الردّة الظاهرة، ولم تُهاجرْ إلى المسلمين، ولم تكتُبْ إليهم، فدلّ سُكُوتُك وبقاؤك فيهم، على مُوافقتك لهم.
س5) هل شهد تاريخُ الإسلام طوائف ممتنعة كافرة ناطقة بالشهادتين؟
جـ5) لم يخلُ قرنٌ من قُرُون الإسلام من طائفة كافرة ناطقة بالشهادتين، وإن كان بينها اختلافات في نوع الكفر. فقد كان منها من صدَّق بنبوة الكذابين، ومن اعتقد الألوهية لغير الله، ومن اعتقد بوحدة الوجُود، وأنكر التفريق بين الخالق والمخلُوق، ومن امتنع من واجب معلُوم من الدين بالضرُورة، أو استحلَّ مُحرّما معلُوما من الدين بالضرُورة. وإليك أمثلة من ذلك:
(القرن الأول)
ظهر في القرن الأول بنُو حنيفة وأسد الذين اتّبعُوا الكذابين المتنبئين، وظهر مانعُو الزكاة، وكان لهم قُوّة ومنعة، ولم تقدر الدولة المسلمة، على القضاء عليهم إلا بعد حُرُوب مُريرة دامتْ سنة كاملة، وأخبارهم معرُوفة.
والجدير بالذكر أنّ بعض الصحابة اشتبه عليهم أمرُ مانعي الزكاة لتوحيدهم وصلاتهم، ولكنّهم لما جلسُوا للنقاش، فاؤوا إلى قول أبي بكر رضي اللهُ عنهُ. وكان الصحابة على قول واحد، في مُدّة حُرُوب الردّة، ولم يكنْ منهم من يُردِّدُ الشُبهات الرائجة اليوم، مثل قولهم:
(من شهد الشهادتين -الشرك الأكبر- فهو المسلم، فحرامٌ دمهُ وماله وعرضه).
و(لا يحلُّ تكفيرُ المُعيّنين). و(توفر الشرُوط وانتفاء الموانع قبل إنزال العُقُوبات). و(الإعذار بالجهل)، وغيرها.
والسببُ -باختصار- أنّ الصحابة كانوا يعلمُون من شرعِ اللهِ ما يجهله أهلُ الإرجاء والجمُود الذين يُردِّدُون هذه الشُبهات، لإدخال الكفرة الفجرة في حظيرة دين الله الحنيف.
(القرن الثاني)
1) وظهر في القرن الثاني "المُقنّع الخراساني"، جاء في "وفيات الأعيان":
"المُقنّع الخراساني: وكان يعرف شيئاً من السحر والنيرجات فادعى الربوبية من طريق المناسخة، وقال لأشياعه والذين اتبعوه: إن الله سبحانه وتعالى تحول إلى صورة آدم، ولذلك قال للملائكة: اسجدوا له فسجدوا إلا إبليس فاستحق بذلك السخط، ثم تحول من آدم إلى صورة نوح عليه السلام، ثم إلى صورة واحد فواحد من الأنبياء عليهم السلام والحكماء حتى حصل في صورة أبي مسلم الخراساني -المقدم ذكره- ثم زعم أنه انتقل إليه منه، فقبل قوم دعواه وعبدوه وقاتلوا دونه".
قال: "ولما اشتهر أمر المقنع وانتشر ذكره ثار عليه الناس، وقصدوه في قلعته التي كان اعتصم بها وحصروه، فلما أيقن بالهلاك جمع نساءه وسقاهن سماً فمتن منه ثم تناول شربة من ذلك السم فمات، ودخل المسلمون قلعته فقتلوا من فيها من أشياعه وأتباعه، وذلك في سنة ثلاث وستين ومائة، لعنه الله تعالى، ونعوذ بالله من الخذلان. اهـ
2) وظهرت كذلك "الخرمية" الذين استباحُوا المحرّمات، وزعمُوا أنّ النصُوص لا تقصُدُ عين الأشياء المذكورة، بل تقصُدُ معاني غير ظاهرها.
جاء في "البداية والنهاية" لابن كثير، في حوادث سنة 192هـ:
"وفيها خرجت الخرمية بالجبل وبلاد أذربيجان فوجه الرشيد إليهم عبد الله بن مالك بن الهيثم الخزاعي في عشرة آلاف فارس فقتل منهم خلقا وأسر وسبى ذراريهم وقدم بهم بغداد فأمر له الرشيد بقتل الرجال منهم وبالذرية فبيعوا فيها وكان قد غزاهم قبل ذلك خزيمة بن خازم"
(القرن الثالث)
1) وفي أوائل القرن الثالث، اشتدّ أمرُ "الخُرمية"، وكثُر أتباعهم. جاء في "البداية والنهاية"، في حوادث سنة: 218هـ:
"وفيها دخل خلق كثير من أهل همذان وأصبهان وماسبذان ومهرجان في دين "الخرمية" فتجمع منهم بشر كثير فجهز إليهم المعتصم جيوشا كثيرة آخرهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب في جيش عظيم وقد له على الجبال فخرج في ذي القعدة وقرئ كتابه بالفتح يوم التروية وأنه قهر الخرمية وقتل منهم خلقا كثيرا وهرب بقيتهم إلى بلاد الروم".
2) وفي منتصف هذا القرن ظهر "صاحب الزنج"، وكثرت أتباعه، واستمال العبيد من الزنُوج ووعدهم بالغلبة والتمكين، واستولى مرّة على البصرة، ودامت الحرُوبُ بينهُ وبين الدولة العباسية أربعة عشر عامّا.
جاء في "البداية والنّهاية" لابن كثير، في خبر دخُوله البصرة:
قال: " وفي ليلة الرابع عشر من شوال من هذه السنة كسف القمر وغاب أكثره وفي صبيحة هذا اليوم دخل جيش الخبيث الزنجي إلى البصرة قهرا فقتل من أهلها خلقا وهرب نائبها بغراج ومن معه وأحرقت الزنج جامع البصرة ودورا كثيرة وانتهبوها. ـ اهـ
وقال عن هزيمتهم لما انتصر عليهم الموفّق: "واستتاب من بقى من أصحاب صاحب الزنج، وأمنهم الموفق، ونادى في الناس بالأمان، وأن يرجع كل من كان أخرج من دياره بسبب الزنج إلى أوطانهم وبلدانهم، ثم سار إلى بغداد، وقدم ولده أبا العباس بين يديه ومعه رأس الخبيث يحمل ليراه الناس، فدخلها لثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة، وكان يوما مشهودا، وانتهت أيام صاحب الزنج المدعي الكذاب قبحه الله.
وقد كان ظهوره في يوم الأربعاء لأربع بقين من رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان هلاكه يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، وكانت دولته أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام. ولله الحمد والمنة " ـ اهـ
3) وظهرت دعوة "القرامطة" بالعراق، وكانت كُفرًا وزندقة، وقوي أمرهم، وملكُوا "البحرين"، واستمرّ زمن قوتهم إلى منتصف القرن الخامس، أمّا فتنتهم الاعتقادية فقد استمرّت مُدّة أطول من ذلك.
جاء في "البداية والنّهاية" لابن كثير: "ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائتين، فيها جرت وقعة عظيمة بين القرامطة وجند الخليفة، فهزموا القرامطة، وأسروا رئيسهم الحسن بن زكرويه ذا الشامة، فلما أسر حمل إلى الخليفة في جماعة كثيرة من أصحابه من رؤسهم، وأدخل بغداد على فيل مشهور، وأمر الخليفة بعمل دفة مرتفعة، فأجلس عليها، وجيء بأصحابه، فجعل يضرب أعناقهم بين يديه وهو ينظر، وقد جُعل في فمه خشبة معترضة مشدودة إلى قفاه، ثم أنزل فضرب مائتي سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه وكوى ثم أحرق وحمل رأسه على خشبة وطيف به أرجاء بغداد".
4) وفي أواخر القرن الثالث، سنة 297هـ، ظهر بنُو عُبيد القداح، وملكُوا المغرب ثمّ مصر وغيرها، واستمرّت دولتهم إلى مُنتصف القرن السادس. وكانُوا يقيمُون الجمعة والجماعات، ويزعمُون أنّهم من ذرّية فاطمة رضي الله عنها. وكانت العامة تنخدعُ بهم، وذكر العُلماءُ أنّهم كانُوا زنادقة.
قال الإمام ابن تيمية في الفتاوى: "وهؤلاء "بنو عبيد القداح" ما زالت علماء الأمة المأمونون علماً وديناً يقدحون في نسبهم ودينهم؛ لا يذمونهم بالرفض والتشيع؛ فإن لهم في هذا شركاء كثيرين؛ بل يجعلونهم "من القرامطة الباطنية" الذين منهم الاسماعيلية والنصيرية، ومن جنسهم الخرمية المحمرة وأمثالهم من الكفار المنافقين، الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر".
(القرن الرابع)
1) قوي أمرُ "القرامطة"، وغزا أميرهم أبو طاهر القرمطي مكّة سنة 317هـ وقتلُوا خلقا كثيرا من الحُجاج، واقتلعوا الحجر الأسود، وبقي في أيديهم إلى سنة 339هـ.
جاء في "البداية والنّهاية" في حوادث سنة 317هـ: "فيها خرج ركب العراق وأميرهم منصور الديلمي فوصلوا إلى مكة سالمين وتوافت الركوب هناك من كل مكان وجانب وفج فما شعروا إلا بالقرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية فانتهب أموالهم واستباح قتالهم فقتل في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقا كثيرا"
"ثم أمر بأن يقلع الحجر الأسود فجاءه رجل فضربه بمثقل في يده وقال أين الطير الأبابيل أين الحجارة من سجيل ثم قلع الحجر الأسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم فمكث عندهم ثنتين وعشرين سنة حتى ردوه"
2) استفحل أمرُ بني عُبيد، وملكُوا مصر في منتصف هذا القرن، في سنة 358هـ، وملكُوا كذلك الشام والحجاز مُدّة من الزمن.
قال الإمام ابن تيمية: "ولأجل ما كانوا عليه من الزندقة والبدعة بقيت البلاد المصرية مدّة دولتهم نحو مائتي سنة قد انطفأ نور الإسلام والإيمان. حتى قال العلماء: إنّها كانت دار ردّة ونفاق، كدار مسيلمة الكذّاب". (الفتاوى:م 35/ ص: 139).
(القرن الخامس)
1) كانت دولة بني عُبيد لا تزالُ قائمة في هذا القرن كلّه.
2) في منتصف هذا القرن سنة 447هـ، انتهت سيطرة القرامطة على "البحرين" وغيرها.
(القرن السادس)
1) كانت دولة بني عُبيد قائمة أكثر من ثُلثيْ هذا القرن، إلى أنْ سقطت، في سنة 567هـ، بيد "صلاح الدين الأيُوبي".
(القرن السابع)
1) تحوّلت القبائل المغولية الوثنية التي احتلّت المشرق الإسلامي، من نهر السند إلى نهر الفرات، من الوثنية إلى ادّعاء الإسلام، والنُّطق بالشهادتين. ولم يُسلمُوا إسلاما صحيحا، فقد اشتهرُوا بأمرين لا يصحُّ الإسلامُ بدُون تركهما.
(الأول) هو العمل بالياسق، وهي شريعة جاهلية، وضعها لهم جدُّهم "جنكز خان". وكانت عبارة عن أحكام مقتبسة من اليهُودية والنّصرانية والملّة الإسلامية، مع أحكام من وضعه وهواه.
(الثاني) استحلال دماء المسلمين، وبناء الموالاة على طاعة دولتهم، فمن أطاعها فهو مقرّبٌ وإن كان كافرا، ومن لم يدخُلْ في طاعتها قُتل، ولو كان من أصلح النّاس.
وإليك بعض ما قالهُ الإمام ابن تيمية في وصفهم، وكان مُعاصرا لهم،
قال: "فإنّ عسكرهم مشتملٌ على أربع طوائف:
1) كافرة باقية على كفرها من الكرج والأرمن والمغل.
2) وطائفة كانت مسلمة فارتدت عن الإسلام وانقلبت على عقبيها من العرب، والفرس والروم وغيرهم. وهؤلاء أعظمهم جرماً عند الله وعند رسوله والمؤمنين من الكافر الأصلي من وجوه كثيرة.
3) وفيهم أيضاً من كان كافراً فانتسب إلى الإسلام ولم يلتزم شرائعه من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحجّ البيت، والكفّ عن دماء المسلمين وأموالهم، والتزام الجهاد في سبيل الله، وضرب الجزية على اليهود والنصارى وغير ذلك. .... إلى أن قال:
4) وفيهم صنف رابع شرّ من هؤلاء وهم قوم ارتدّوا عن شرائع الإسلام وبقوا مستمسكين بالانتساب إليه. فهؤلاء الكفّار المرتدّون والداخلون فيه من غير التزام لشرائعه والمرتدّون عن شرائعه لا عن سمته: كلّهم يجب قتالهم بإجماع المسلمين حتى يلتزموا شرائع الإسلام وحتى لا تكون فتنة ويكون الدّين كلّه لله". (اهـ بتصرف)
(القرن الثامن)
1) امتدت دولة التتار الناطقين بالشهادتين، من أواخر القرن السابع إلى الثلث الأول من القرن الثامن، وكان سُقُوطها سنة 736هـ.
وإليك ما قالهُ عنهم الإمامُ "ابنُ كثير (701ﻫ ـ 774ﻫ)، وكان مُعاصرا لهم: في تفسيره عند قوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾.
"يُنكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شرّ. وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم.
وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم (جنكيز خان) الذي وضع لهم "الياسق" وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد أقتبسها عن شرائع شتى من اليهودية، والنصرانية، والملّة الإسلامية وغيرها، وفيها كثيرٌ من الأحكام أخذها من مجّرد نظره وهواه.
فصار في بنيه شرعاً متّبعاً، يُقدِّمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليلٍ ولا كثيرٍ" ـ اهـ
2) وفي أواخر هذا القرن، ظهرت موجة التتار الثانية، يقودها تيمُور لنك، ولم يكُونُوا بأفضل من التتار الأولين. وقد دمّر تيمُور جميع الممالك والسلطات الإسلامية القائمة، وأباد الخلق.
قال المقريزي في "السُلُوك"، عن "تيمور لنك": "وملك عامة بلاد العراق وخراسان‏.‏ وسمرقند والهند وديار بكر وبلاد الروم وحلب ودمشق وخرب مدن العالم وحرقها وهدم بغداد وأزال نعم الناس وكان قاطع طريق‏. أول ظهوره سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة‏". ـ اهـ ‏
(القرن التاسع)
1) ابتدأ هذا القرن وتيمُور يعيثُ في الأرض فسادا، وانتظمت لهُ البلاد بعد مجازر مُروعة، من الهند إلى الأناضُول. قال ابن حجر العسقلاني، (773ﻫ - 852ﻫ)، وكان مُعاصرًا لهم، بعد أن سرد أخبار حُرُوبه:
"فلما كان في سنة أربع وثمانمائة قصد بلاد الروم فغلب عليها وأسر صاحبها، ومات في الاعتقال. ودخل الهند فنازل مملكة المسلمين حتى غلب عليها، وكان مغرى بغزو المسلمين وترك الكفار، وصنع ذلك في بلاد الروم، ثم في بلاد الهند؛ وكان شيخا طوالا شكلا مهولا طويل اللحية، حسن الوجه، بطلا شجاعا، جبارا، غشوما، ظلوما سفاكا للدماء، مقداما على ذلك، وكان أعرج، شلت رجله في أوائل أمره.
وكان يصلي من قيام، وكان جهير الصوت، وكان يسلك الجد مع القريب والبعيد، ولا يحب المزاح، ويحب الشطرنج وله فيها يد طولى، وزاد فيها جملا وبغلا وجعل رقعته عشرة في أحد عشر، وكان فيها ماهرا وكان لا يلاعبه به إلا الأفراد، وكان يقرب العلماء والصلحاء والشجعان والأشراف وينزلهم منازلهم ولكن من خالف أمره أدنى مخالفة استباح دمه، فكانت هيبته لا تدانى بهذا السبب، وما أخرب البلاد إلا بذلك لأنه كان من أطاعه في أول وهلة أمن، ومن خالفه أدنى مخالفة وهن.
وكان له فكر صائب ومكايد في الحرب عجيبة وفراسة قل أن تخطئ، وكان عارفا بالتواريخ لإدمانه على سماعه، لأنه لا يخلو مجلسه عن قراءة شيء منها سفرا وحضرا، وكان مغرى بمن له معرفة بصناعة ما إذا كان حاذقا بها، وكان أميا لا يحسن الكتابة، وكان حاذقا باللغة الفارسية والتركية والمغلية خاصة.
وكان يُقدم قواعد "جنكز خان"، ويجعلها أصلا، ولذلك أفتى جمعٌ جمٌّ بكُفره مع أن شعائر الإسلام في بلاد ظاهرة". ـ اهـ (انباء الغمر)
وجاء في "النجوم الزاهرة": "لما استولى على بغداد، ألزم جميع من معه، أن يأتيه كل واحد منهم برأسين من رؤوس أهل بغداد، فوقع القتل في أهل بغداد وأعمالها، حتى سالت الدماء أنهارًا حتى أتوه بما أراد فبنى من هذه الرؤوس مائة وعشرين مئذنة‏.‏
فكانت عدة من قتل في هذا اليوم من أهل بغداد تقريبًا مائة ألف إنسان - وقال المقريزي‏:‏ تسعين ألف إنسان - وهذا سوى من قتل في أيام الحصار، وسوى من قتل في يوم دخول تيمور إلى بغداد، وسوى من ألقى نفسه في الدجلة، فغرق وهو أكثر من ذلك‏.‏
قال‏:‏ وكان الرجل المرسوم له بإحضار رأسين، إذا عجز عن رأس رجل، قطع رأس امرأة من النساء، وأزال شعرها، وأحضرها قال‏:‏ وكان بعضهم يقف بالطرقات ويصطاد من مر به ويقطع رأسه‏.
قال: "وكانت وفاة تيمور في ليلة الأربعاء سابع عشر شعبان سنة سبع وثمانماثة" ـ اهـ
­­­
(القرُون التالية)
كانت الأحوال تهبطُ إلى السفُول، من سيئْ إلى أسوأ، وغلب شركُ الاعتقاد على الساحة -وكان قد ابتدأ في أزمان بعيدة- حتى صار هو المعرُوف، ولذا لما جاء الإمامُ محمّد بن عبد الوهاب بدعوة التَّوحيد، في القرن الثاني عشر، عُدَّ من الخوارج، بينما صار أنصارُ الشرك والجاهلية، حُماة الدين والسنّة في عُرف البيئة. ثُمّ كانت حملاتُ الغربيّين، وما تلا ذلك من الاستعمار، والغزو الفكري حتى صار تقليدُهم، وتقديمُ مبادئهم الجاهلية آية التحضُّر.
ولم تكُن المُصيبة النَّازلة مجيءَ الأعداء الأقوياء، وإنّما كانت غيبةُ العقيدة الصحيحة من النُّفُوس، وإضفاء صفة الإسلام على غير أهله، فظهرت أمّة واحدة تتكوّنُ من ملاحدة ويهُود ونصارى، ومُدّعين للإسلام، تحملُ شعارًا واحدا، هو التعايش السلمي، وتنمية الحياة الدُنيا، وإحياء الإنسانية، وخلق المودّة بين الجميع، وإهمال التكاليف الدينية، والتحرُّر من قُيُودها.
س6) إذا تمالأت طائفةٌ على خيرٍ أو شرٍّ، وباشرها بعضُها، هل الثواب أو العُقُوبة عامّةٌ أم على المُباشرين؟
جـ6) الطائفةُ المجتمعةُ على الخير كالجهاد، تُعتبرُ كشخص واحد، فتُقسمُ لها الغنيمة بالسوية، ومن غاب عن المعركة لمصلحة الجيش، لهُ حقُّهُ في الغنيمة.
والطائفةُ المجتمعةُ على الفساد كقطع الطريق، تُعتبرُ كشخص واحد فيما أتلفُوه، ويُعاقبُ الجميع، ولا ينجُوا من العقاب من كان يُعاونها بالرأي أو المال، ولم يُباشر القتل والنّهب.
والطائفةُ المجتمعةُ على الكُفرِ، والقبيلة الكافرة، تُعتبرُ كشخص واحد، ويُقاتلها المسلمُون في الجهاد، من قاتل منها ومن لم يُقاتل، وتُؤخذُ النساءُ والصبيان أسارى.
قال الإمام ابن تيمية: "وكذلك لو غنم الجيش غنيمة شاركته السرية، لأنها في مصلحة الجيش، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم لطلحة وسعيد يوم بدر. لأنه كان قد بعثهما في مصلحة الجيش.
فأعوانُ الطائفة الممتنعة وأنصارُها منها، فيما لهم وعليهم، وهكذا المقتتلون على باطل لا تأويل فيه، مثل المقتتلين على عصبية ودعوى جاهلية كقيس ويمن ونحوهما ظالمتان.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال أراد قتل صاحبه أخرجاه في الصحيحين.
وتضمن كل طائفة (ما) أتلفته للأخرى من نفس ومال وإن لم يعرف عين القاتل لأن الطائفة الواحدة الممتنع بعضها ببعض كالشخص الواحد" اهـ (الفتاوى:28/309)
وقال ابن مفلح في "الفرُوع": "الطائفةَ الممتنعةَ كشخص واحد فِيما أتلفوه". اهـ
ويلحق بالطائفة الممتنعة الطائفة المتمالئة المتفقة على عمل ما.
عن سعيد ابن المسيب: "أن إنسانا قُتل بصنعاء، وأن عمر قتل به سبعة نفر. وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا" (الدارقطني، وابن أبي شيبة)
س7) ما حُكم من كان في طائفة كافرة أو فاسقة وهو ليس منها في كفرها أو فسقها؟
جـ7) المُسلمُ إذا رأى المُنكر، وجب عليه إنكارُهُ على حسب استطاعته، إمّا باليد، أو باللسان، أو بالقلب، كما جاء في الحديث: (من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعفُ الإيمان). (مسلم).
فمن أدَّى الّذي عليه، أو كان في طائفة لا يعلمُ بما تمالأت عليه من الشرِّ، فهو معذُور عند الله، ويُبعثُ على نيّته.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يُخسف بأولهم وآخرهم". قالت: قلت: "يا رسول الله كيف يُخسفُ بأوَّلهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟". قال: "يُخسفُ بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم". (متفق عليه).
وأهلُ الحقِّ مأمُورُون بقتال الطائفة الممتنعة الكافرة، ولم يُؤمرُوا بالتفتيش عن القُلُوب، فإن قتلُوا مُكرها، ومن ليس من الطائفة، وإنّما وافقهم في سيرِه على الطريقِ، فهم معذُورُون بقتله، والمقتُولُ يُبعثُ على نيّته.
س8) هل قتالُ الطائفة النَّاطقة بالشهادتين، الممتنعة عن فعل واجب، أو ترك مُحرَّم، مسألةٌ خلافيةٌ، أم أمرٌ مُجمعٌ عليه؟
جـ8) هو أمرٌ مُجمعٌ عليه، أجمع عليه الصحابة في خلافة أبي بكر الصدّيق. ولم يختلفْ فيه الأئمّة بعدهم.
قال الإمامُ ابن تيمية: "فأيما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحجّ أو عن التزام تحريم الدماء والأموال أو الخمر أو الزنى أو الميسر أو نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب أو غير ذلك من التزام واجبات الدِّين، أو محرّماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها -والتي يكفر الواحد بجحودها- فإن الطائفة الممتنعة تقاتَل عليها وإن كانت مقرّة بها وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء.
وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنْزلة البغاة الخارجين على الإمام أو الخارجين عن طاعته كأهل الشام مع أمير المؤمنين على بن أبى طالب. وأمَّا المذكورُون فهم خارجون عن الإسلام".
وقال في آخر كلامه: "والصحابة لم يكونوا يقولون هل أنت مقرّ بوجوبها أو جاحدٌ لها؟ هذا لم يعهد عن الصحابة بحال. بل قال الصديق لعمر رضي الله عنهما: "والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه"، فجعل المبيح للقتال مجرّد المنع لا جحد الوجوب.
وقد روى أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب، لكن يخلُّو بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم سيرة واحدة. وهى قتل مقاتلهم، وسبي ذراريهم، وغنيمة أموالهم، والشهادة على قتلاهم بالنار. وسمّوا جميعاً أهل الردّة. وكان من أعظم فضائل الصديق عندهم، أن ثبته الله على قتالهم. ولم يتوقّف كما توقّف غيره حتى ناظرهم فرجعوا إلى قوله. وأما قتال المقرِّين بنبوة مسيلمة الكذَّاب فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم" (الفتاوى: م 28/ص 501 - 509). ا ﻫ
وقال عن الغالية من الرافضة: فإنّ جميع هؤلاء الكفار أكفر من اليهود والنصارى .. فإن لم يظهر عن أحدهم ذلك كان من المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النّار. ومن أظهر ذلك كان أشدّ من الكفّار كفراً. فلا يجوز أن يُقرّ بين المسلمين لا بجزية ولا ذمّة، ولا يحلّ نكاح نسائهم ولا تؤكل ذبائحهم لأنّهم مرتدون من شرّ المرتدين. فإن كانوا طائفة ممتنعة وجب قتالهم كما يقاتل المرتدون. كما قاتل الصديق والصحابة أصحابَ مسيلمة الكذّاب.
وإذا كانوا في قرى المسلمين فرقوا وأسكنوا بين المسلمين بعد التوبة وألزموا بشرائع الإسلام ألتى تجب على المسلمين وليس هذا مختصّاً بغالية الرافضة بل من غلا في أحد المشائخ وقال: أنّه يرزقه أو يسقط عنه الصلاة أو إنّ شيخه أفضل من النّبي صلى الله عليه وسلم. أو إنّه مستغن عن شريعة النّبي صلى الله عليه وسلم.
وأنّ له إلى الله طريقاً غير شريعة النّبي صلى الله عليه وسلم. أو أنّ أحداً من المشائخ يكون مع النّبي صلى الله عليه وسلم كما كان الخضر مع موسى. وكلّ هؤلاء كفّار يجب قتالهم بإجماع المسلمين وقتل الواحد المقدور عليه منهم. (الفتاوى: م28/ص:474).
س9) متى يكُونُ الأصل في التعامُل مع الأفراد والطوائف إسلاما، ومتى يكُونُ كُفرًا؟
جـ9) يُعاملُ الفردُ على ما أظهرهُ، فمن أظهرَ إسلاما، وتوبة من الشركِ يُعامَلُ على هذا الأصل، ولايجُوزُ تكفيرُهُ، أو الظنُّ به شرًّا وكُفرًا. ويُقالُ: "الأصلُ في التعامُل مع هذا أنَّهُ مُسلمٌ". وهذا ما يُسمّى باستصحاب الحال، أو استصحاب البراءة الأصلية.
وكذلك من أظهر كُفرًا وشركًا، يُعامَلُ على هذا الأصل، ولايجُوزُ الحُكمُ بإسلامه، أو الظنُّ به خيرًا وإسلاما. ويُقالُ: "الأصلُ في التعامُل مع هذا أنَّهُ مُشرِكٌ". وهو استصحابُ لآخر حاله.
وتُعاملُ الطائفةُ على ما أظهرتهُ، فإن أظهرَتْ إسلاما، وتوبة من الشركِ تُعامَلُ على هذا الأصل، ولايجُوزُ تكفيرُها، أو الظنُّ بها شرًّا وكُفرًا. ويُقالُ: "الأصلُ في التعامُل مع هذه الطائفة أنَّها مُسلمةٌ". وهو استصحابٌ لآخر حالها.
وإنْ أظهرتْ كُفرًا وشِركًا، تُعامَلُ على هذا الأصل، ولايجُوزُ الحُكمُ بإسلامها، أو الظنُّ بها خيرًا وإسلاما. ويُقالُ: "الأصلُ في التعامُل مع هذه الطائفة أنَّها مُشرِكةٌ". وهو استصحابُ لآخر حالها.
وإذا دخلَ المُسلمُ دار طائفة أو قبيلة علم بإسلامها، فإنّهُ يُعاملُ أفرادها على أصلِ الإسلام، ولا يمتحنُ الأفراد، ويُصلِّي خلفَ إمامِهم، دُون أن يسأل عن اعتقاده. لأنّ الأصلَ أنَّ الطائفة الواحدة كشخص واحد، ما لم يظهرْ الخلاف. فإن ظهر فيها، مَن هو على الكُفرِ، عَلم أنّهُ ليس من الطائفة المسلمة في الدين.
وإذا دخلَ المُسلمُ دار طائفة أو قبيلة علم بكُفرِها، فإنّهُ يُعاملُ أفرادها على أصلِ الكُفر، وإن كانُوا من النّاطقين بالتّوحيد. فلا يأكُلُ ذبائح أفرادها، ولا يُصلِّي خلفَ إمامِها، ولا ينكحُ نساْءها. لأنّ الأصلَ أنَّ الطائفة الواحدة كشخص واحد، ما لم يظهرْ الخلاف. فإن ظهر فيها، مَن هو على الإسلام، والبراءة من الشركِ وأهله، علمَ أنّهُ ليس من الطائفة المشركة في الدِّين.
إنَّهُ كما أنَّ الإسلام جعل للنَّاس أحكاما، وجعل لكُلِّ فرْدٍ حُكما شرعيًّا، يُلحقُهُ بأحد الدينين، الكُفر أو الإسلام، فيكُونُ فردٌ كافرًا، وفردٌ مُسلما، فكذلك جعل الإسلامُ لكلِّ طائفة، أو قبيلة، أو مملكة، أو دولة، حُكمًا شرعيًّا، يُلحقُها بأحد الدينين، الكُفر أو الإسلام، فتكُونُ إمّا كافرةً، وإمَّا مُسلمةً. ويُرجعُ في أمر الكُفرِ والإسلام إلى الكتابِ والسنَّة، لا إلى عُرفِ النَّاسِ، وتصورات البيئة، وأهواء المشايخ المفتُونين بالدُنيا.
وإذا صارت طائفة أو قبيلة أو دولة كافرة، فإنّ دارها تُضافُ إلى الكُفر، فيُقالُ إنّها دارُ الكُفرِ، أو تُضافُ إلى ساكنيها، فيُقالُ إنّها دارُ الكافرين. وكذلك، إذا صارت طائفة أو قبيلة أو دولة مُسلمة، فإنّ دارها تُضافُ إلى الإسلام، فيُقالُ إنّها دار إسلام، أو تُضافُ إلى ساكنيها، فيُقالُ إنّها دارُ المسلمين.
فنسبة الدار إلى من يقيم بها عُرفٌ بشريٌّ، يوجد في جميع لغات البشر، ويوجد بكثرة في دواوين الأشعار الجاهلية، التي هي المرجع في إثبات اللغة العربية الأصيلة. والقرآنُ نزل بلغة العرب، وأضاف الديار إلى ساكنيها.
قال تعالى: ﴿سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ (لأعراف:145)
وجاء في أخبار غزوة تبوك أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بديار "ثمود". وفي حديث زيارة القبور: "سلام عليكم دار قوم مؤمنين".
قال سيبويه: "وكل موضع حلّ به قومٌ فهو دارهم" (لسان العرب).
س10) كيف يُوفَّقُ بين قاعدة "ترك التكفير قبل توفُّر شروطه، وانتفاء موانعه"، وقاعدة "اعتبار الطائفة الممتنعة كشخص واحد"؟
جـ 10) ليس بين القاعدتين تعارُض، ولكُلٍّ منها موضعٌ، فالقاعدةُ الأُولى تخصُّ بقوم حُكم بإسلامهم، ويُعاملُون على أصلِ الإسلام، والثانيةُ تخصُّ بقومٍ حُكم بكُفرهم، ويُعاملُون على أصلِ الكُفر.
قاعدةُ "توفُّر شروط التكفير، وانتفاء موانعه"، تخصُّ أفراد المجتمع الَّذين ثبت إسلامُهُم بيقين، لأنَّ من ثبت إيمانُهُ الظّاهر بيقين لا يزُولُ إيمانُهُ بالشكِّ. فمن قيل عنهُ: إنَّهُ قد كفر، وجب التثبُّت في أمره، ومعرفة: هل القولُ أو الفعلُ ممّا يُوجبُ الكُفر، وهل هو عاقلٌ أو مجنُون، وهل هو مُختارٌ أو مُكرهٌ إلى آخره. والطّائفة كذلك إذا كان قد ثبت إسلامها، لايجوز القول بزوال إيمانها بالشكِّ.
أمَّا الطّائفة الممتنعة التي تظهرُ الكُفر، وتكُونُ لهم الغلبة في بلادها، فإنَّ دارها دارُ كُفرٍ، ويجبُ على المسلم القادر أن يُهاجرَ منها، إذا لم يقدر على إظهار دينه. ومثل هذه الطّائفة لا يُقالُ -وإن كانت من أهل الانتساب- يجبُ تطبيق قاعدة "توفُّر شروط التكفير، وانتفاء موانعه"، في حقِّ كُلِّ فردٍ منها.
ولم يقلْ بها الصحابة في حُروب أهلِ الرّدَّة المُنتسبين إلى الإسلام، ولم يكُونُوا يقُولون: يجبُ سُؤال كلِّ شخص بعينه، هل ارتدَّ أم لا، وإنّما كان يكفيهم إعلان السّادة والرّؤساء، وبقاء العامّة في طاعتهم.
وكان يحدث أحيانا، أن يرتدَّ بعضُ القبيلة، ويثبتَ البعضُ على الإسلام، فكان أبوبكر يُعينُ من ثبت، ويأمرهم بجهاد من ارتدِّ، ولم يكن يقُولُ لهم: لا تقتلوا من أهل الرّدَّة إلّا بعد توفُّر الشّروط وانتفاء الموانع.
إنَّ الطّائفة أو الأمَّة التي تُظهرُ قادتُها الكفرَ، وتُطاوعها العامَّة، لها حُكم الكُفر، ويجبُ قتالها، إذا كان للإسلام قُوَّة، وإلّا وجب إظهارُ الإسلام بدعوة الناس إلى الحقِّ، ووجبت البراءة منهم، ومن كُفرهم، كما هي ملّة الأنبياء.
ومن الأخطاء الَّتي ترتَّبت من استخدام هذه القاعدة في غير موضعها ما يأتي:
1) وُجد من يقُولُ: نحنُ في دار كُفرٍ، ولا نعتقدُ كُفرَ أحدٍ فيها، إلا من كفَّرْناهُ بعد توفُّر الشّروط وانتفاء الموانع. وذلك مع كونهم ليسُوا بقضاة، ولا أصحاب سُلطان.
2) نتج من هذا التّذبذب، أنَّهم إذا أحسُّوا بأنَّ لهم قوَّة قاتلوهم قتال الكُفّار، وإذا انهزمُوا اندمجُوا فيهم، يأكلون ذبائحهم، ويُصلُّون خلفهم، ويتزوَّجُون من نسائهم، ويُبدِّعُون من لا يفعلُ فعلهم.
3) أن يُخالفوا المنهج الصّحيح في التّعامل مع الطّوائف الكافرة، ألّذي هو البراءة منهم ومقاطعتهم، وأن يستمرَّ ذلك في جميع الأجيال. وسببُ المخالفة سُوءُ الفهم لهذه القاعدة. فالصُّوفية الوثنية التي كان حُكمها معلوماً في زمن ابن تيميّة، صارت عندهم من المسلمين الذين يُراعى فيهم قاعدة توفُّر الشّروط وانتفاء الموانع.
ومن العجب أنَّ بعضهم إذا سُئل: لماذا تُعادي أهل التَّوحيد والبراءة؟، أجاب: جاء الحديث بقتلهم، وقتلهم عليٌّ. وإن سُئل: لماذا لا تُكفِّرُ أهلَ الشرك والردّة، وقد جاء القرآنُ بتكفيرهم وقتلهم؟، أجاب: يقُولون "لا إله إلا الله"!!. وكأنَّهُ لا يفطنُ بأنَّ الأوّلين كذلك يقولون "لا إله إلا الله"، ولا يُشركُون بالله شيئاً.
وكان الأنسبُ لهُ إذا اعتقد أنّ الخوارج أمّةٌ واحدة، يمتدُّ وجُودُها من زمن عليّ رضي الله عنه إلى اليوم، وأنّ لهم حُكما واحدًا، كان الأنسبُ لهُ أن يعتقد أنّ أهلَ الردّة أمّةٌ واحدةٌ، يمتدُّ وجُودُها من زمن أبي بكر رضي الله عنه إلى اليوم، وأنّ لهم حُكما واحدًا. لأنّ إلحاق الإنسان بأهلِ ملّته أصلٌ صحيحٌ.
أمّا التناقضُ العجيبُ فهو إلحاق من جاء بعقيدة الخوارج بالخوارج، وعدمُ إلحاق من جاء بعقيدة أهلِ الردّة بأهلِ الردّة. فيدلُّ ذلك التناقض على تحكِيم الهوى ومُجانبة الشرع، إذْ ليس في شريعة الرَّحمن تناقضات واختلافات.
س11) كيف يُوفَّق بين قول الإمام "ابن تيمية"، في الطائفة الممتنعة، حيث أعطاها حُكما يشملُ أفرادها، وبين أمره في فتاواه بالتثبُّت عند الحكم على الفرد بالكفر أو الفسق؟
جـ11) إنّ الطائفة الممتنعة، أو القبيلة، إذا حُكم بكفرها، فإنّ الفرد منها تبعٌ لطائفته، وما الطائفة في الحقيقة إلا الأفراد، ولكن لما تجمّعُوا وصارُوا قُوّة، اُحتُيج إلى معرفة حكمهم كطائفة. فإن كانت طائفة مُعلنة للكُفرِ، فهي كافرة، وإن كانت مُعلنة للبدعة، أو الفسق، فهي مُبتدعة أو فاسقة. وإن كانت مُعلنة للإسلام والصلاح فهي مُسلمة.
فحيثُ تكلّم الشيخ عن طائفة وجب قتالها لكُفرها، فهو لا يأمُرُ باعتبار أفرادها مُسلمين، لأنَّهُ قد بيّن حُكمَ الفردِ منها، لما بيّن حُكمَ طائفته. وحيثُ تكلّم عن طائفة مُسلمة، فإنّهُ ينهى عن تكفير أفرادَها، لأنّهُ قد بيّن حُكمَ الفردِ منها، لما بيّن حُكمَ طائفته. وإليك مثلان تفهمُ منهما هذه الحقيقة، التي لا يفهمُها كثيرُون يقتطفُون من كلام الشيخ، ليضعُوهُ في غير موضعه.
(المثالُ الأول)
من المعلُوم أنّ الإمام "ابنُ تيمية" قد أفتى بكُفر التتّار الذين في زمنه، وكانُوا من النّاطقين بالشهادتين. فكان يأمُرُ بقتل كُلِّ من قُدرَ على قتله، وإن كان مُكرها، لعدم القدرة على التمييز بين المُكره وغيره.
قال بعد أن ساق الأدلّة الدالّة على وجوب قتال التتار:
"والتتارُ وأشباهُهم أعظم خروجاً عن شريعة الإسلام من مانعي الزكاة والخوارج ومن أهل الطائف الذين امتنعوا عن ترك الربا. فمن شكّ في قتالهم فهو أجهل النّاس بدين الإسلام.
وحيثُ وجب قتالهم قوتلوا، وإن كان فيهم المكره باتفاق المسلمين كما قال العبّاس لمّا أسر يوم بدر: يا رسول الله إنّي خرجتُ مكرهاً. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أما ظاهرك فكان علينا، وأما سريرتك فإلى الله". وقال: "ونحن لا نعلم المكره ولا نقدر على التمييز فإذا قتلناهم بأمر الله كنّا في ذلك مأجُورين ومعذُورين، وكانوا على نياتهم." (الفتاوى:28/509).
وقال الإمامُ ابنُ كثير في "البداية والنّهاية"، في حوادث سنة 702 ﻫ:
وكان -أي: ابنُ تيمية- يقول: "إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مُصحف فاقتلوني". فتشجّع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد".

(المثالُ الثاني)
إنَّ الإمام "ابن تيمية" عندما يتحدّثُ عن أفراد مُتّهمين بالكُفر، في طائفة مُسلمة، يُقرّرُ أنّه لا بدّ من إقامة الحجّة عليهم، قبل الحكم عليهم بالكفر، وإن كانت مقالتهم في نفسها كفراً، لأنّهُم كانُوا مُسلمين قبل التُّهمة، فلا يُنتقلُ من ذلك إلا بيقين.
فمن كلامه قوله: "إنني دائماً - ومن جالسني يعلمُ ذلك منّي- من أعظم الناس نَهياً من أن ينسب لشخص معيّن إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلاّ إذا عُلم أنّه قد قامت عليه حجّة الرسالة، التي من خالفها كان كافراً تارة، وأخرى فاسقاً، وعاصياً أخرى، وإنّي أقرّرُ أنّ الله تعالى قد غفر لهذه الأمّة خطأها وذلك تعمّ الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية .. وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحدٌ منهم على أحدٍ لا بكفرٍ ولا بفسقٍ ولا بمعصيةٍ.
وكنتُ أبيّن أنّما نُقل عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا و كذا فهو -أيضاً- حقّ لكن يجبُ التّفريق بين الإطلاق والتعيين. التكفير هو من الوعيد، فإنّه وإن كان القول تكذيباً لمّا قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكن الرجل قد يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة. ومثل هذا لا يكفّر بجحد ما يجحده حتى تقوم الحجّة. وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض أخر، أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً" (الفتاوى: 3/229).
وقال: "ولهذا أكثر السلفِ يأمُرون بقتل الداعي إلى البدعة، الذي يضل الناس لأجل إفساده في الدين، سواء قالوا: هو كافر، أو ليس بكافر. وإذا عُرف هذا فتكفير "المعيَّن" من هؤلاء الجهال وأمثالهم -بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار- لا يجوزُ الإقدام عليه، إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة الرسالية، التي يتبينُ بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر.
وهكذا الكلام في تكفير جميع "المعينين" مع أن بعض هذه البدعة أشدُّ من بعض، وبعضُ المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس لأحد أن يُكفِّر أحداً من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتُبين له المحجَّة". ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة. (الفتاوى: 12/433)
س12) ما حُكم الذبائح المعرُوضة في دار الطائفة الكافرة؟
جـ12) الذبيحة المعروضة في أسواق الطائفة الكافرة -غير أهل الكتاب- لا يجوزُ أكلُها، وكذلك إذا اختلط بسُكانِ المدينةِ منْ لا تحلُّ ذكاتُه، حتى يُعرفَ ذابحُها.
قال الإمامُ ابنُ قُدامة في المغني (م 4/ص:297) : والمشكوك فيه على ثلاثة أضرب:
(الأول) ما أصله الحظر كالذبيحة في بلد فيها مجوس وعبدة أوثان يذبحون فلا يجوز شراؤها وإن أمكن أن يكون ذابحها مسلماً لأن الأصل التحريم فلا يجوز إلاّ بيقين أو ظاهر, وكذلك إن كان فيها أخلاط من المسلمين والمجوس لم يجز شراؤها لذلك, والأصل فيه حديث عديّ بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسلت كلبك فخالط كلباً لم يسمّ عليه فلا تأكل فإنك لا تدري أيهما قتله" (متفق عليه).
وقال الإمام النبوي (في المجلد 9 مجموع شرح المهذب/ص:80):
"لو وجد شاة مذبوحة، ولم ندرِ من ذبحها، فإن كانت في بلد فيه من لا تحلُّ ذكاتُه كالمجوس لم تحلّ، سواء تمحضوا أو كانوا مختلطين بالمسلمين، للشكّ في الذكاة المبيحة والأصل التحريم. وإن لم يكن فيهم أحدٌ حلّت."
وقال الإمام ابن تيمية: "لا تحلّ الفروج والذبائح بالشبهات" (الفتاوى:م 32/ص: 190).

المسالة الثالثة لا ينفعُ النُّطق بالشهادتين في الشركِ الأكبر

(المسألةُ الثالثة) لا ينفعُ النُّطق بالشهادتين في الشركِ الأكبر
(أولا) الإقرار والاعتراف:
قد مرّ بك قولهم في الرسالة: "ونحكم بالإسلام لكل من نطق بالشهادتين". مع قولهم الآخر: " ولا يُخرجُ من الملة من ذلك إلا الأكبر." ـ اهـ.
فأثبتُوا:
1) أنّ الإسلام ينعقدُ بالنطق بالشهادتين.
2) أنّ الواقع في الشرك الأكبر يبطُلُ إسلامُهُ، أي: لا تنفعُهُ الشهادتان.
(ثانيا) التعطيل:
إنّهم مع ما أقرُّوا به من إبطال الشركِ الأكبر للإسلام والشهادتين، لا يلتزمُون بذلك، ولا يعتقدُونه اعتقادا جازما، وذلك لأجل ما معهم من "مبادئ" تُناقضُه، وتُعطِّلُهُ، مثل:
(الأول) قولهم بالإعذار بالجهل في أُصُولِ الدِّين.
(الثاني) قولهم: نُكفِّرُ الأعمال، ولا نُكفّرُ الأعيان.
(الثالث) قولهم: لابُدّ في التكفير من صدور الفتوى من علماء مُعتبرين، أو صُدُور الحكم من القضاة.
فأثبتُوا: "أنّ الشركَ الأكبر لا يُبطلُ الإسلام، ولا يُبطلُ الشهادتين".
فصار مذهبهم في هذه المسألة تناقُضا كمنْ قال:
1) إنّ الإسلام ينعقدُ بالنطق بالشهادتين، ولكنّ النُّطق يُبطلُهُ الشركُ الأكبر.
2) إنّ الإسلام ينعقدُ بالنطق بالشهادتين، ولا يُبطلُهُ الشركُ الأكبر.
المذهبُ الحقُّ:
هو أن تقُول: "الشركُ الأكبرُ يُبطلُ الإسلام، ويُبطلُ الشهادتين".

المسألة الثامنة الولاء والبراء من أصل الدين

(المسألة الثامنة) الولاء والبراء من أصل الدين
(أولا) الإقرار والاعتراف:
جاء في رسالتهم:
(ونُبغضُ أهل الشرك ونعاديهم).
و(أنه لا يجوز للمسلمين أن يتنازلوا للكفار عن شيء من دينهم وعقيدتهم أو أن يرضوا عن شيء من دين الكفار الباطل).
(ونبرأ إلى الله سبحانه من كل تجمع يناقض الإسلام ويحاربه). اهـ
وجاء في رسالتهم:
(ونرى أنه يحرم على المسلم قطعاً موالاة الكفار وحبّهم وطاعتهم ونصرتهم وإعانتهم على المسلمين واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين)
فأثبتُوا:
1) أنَّهم يُبغضُون أهل الشرك ويُعادونهم و لا يتولّونهم.
2) يبرأون إلى الله سبحانه من كل تجمع يناقض الإسلام ويحاربه.
(ثانيا) التعطيل:
(أولاً) إنّ ما أثبتُوهُ من الحقِّ في باب الولاء والبراء، ربّما ينطبقُ على موقفهم من اليهُود والنّصارى والمجُوس، ولا ينطبقُ على أهلِ الشركِ عامّة، لأنّهم أدخلُوا المشركين النّاطقين بالشهادتين في حظيرة الإسلام، بقواعد أخطأوا في فهمها، ووضعُوها في غير مواضعها، فوالُوهم واتَّخذُوهم إخوة في الدِّين.
والولاءُ والبراءُ مُنبثقٌ من العقيدة، فمن أخطأ في فهم العقيدة، والتبس عليه الإسلام والشرك، وعجز عن التفريق بين المسلم والمُشرك، كيف يدَّعِي تحقيق "الولاء والبراء"!!.
(ثانياً) إنّ حُكام العالم الإسلامي سابقا، العلماني حاليا، يجهرُون ويفتخرُون بعلمانيتهم، واتّباعهم للقوانين التي وضعها الكفارُ، وهجرهم لكتاب ربّهم. وهم يعملُون جنبا لجنبٍ مع أسيادهم الغربيين، في الحيلُولة دُون عودة الإسلام. وأصحابُ "الاعتصامية" وأمثالهم، يُنزلُونهم منزلة الخلفاء المسلمين، ويدخُلون في أجهزتهم، ويُغرُونهم بالمُوحِّدين.
إنّ أولئك الحُكام قد تولّوا اليهُود والنّصارى، وفي القُرآن: "ومن يتولّهم منكم فإنّهُ منهم"، وأصحابُ "الاعتصامية" وأمثالهم، قد تولّوا من تولّى اليهُود والنّصارى، وحُكمُ الآية ثابتٌ لم يتغيّرْ: "ومن يتولّهم منكم فإنّهُ منهم"، فهم في قافلة اليهُود والنّصارى بوعيٍ أو بغير وعيٍ. فإنّ من البديهيّات: إذا كان (أ) يُساوي (ب)، و(ب) يُساوي (جـ)، فإنّ (أ) يُساوي (جـ) بلا شكّ.
كيف يقُولُون بعد ذلك: (ونبرأ إلى الله سبحانه من كل تجمُّع يناقضُ الإسلام ويُحاربُه)، وهُم يُوالُون العلمانيين، والعلمانيُّون يُوالُون اليهُود والنّصارى!!.
وقالُوا في رسالتهم:
(وأن الولاء للكفار منه ما هو كفر صريح وهو الموالاة التامّة أو المطلقة وهي التي تكون على أساس نصرة دينهم أوحبّ ملّتهم، ومنه ماهو معصية وهو ما دون ذلك) ـ اهـ
فهُم لا يعتبرُون أحدًا مُواليا لليهُود مثلا، حتى يقُول: "أنا مع اليهُود"، أو "أنا أحبُّ اليهُودية"، وهم يعلمُون أنّ الفعل قد يكُون أصدق من القول في أحيان كثيرة. فإنّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم، لم يكُن يسألُ إذا فرّ منهُ رجلٌ إلى الكُفار: "هل فرّ إليهم حُبًّا لملّتهم، أو لغرض آخر"، لأنَّ الفعل هُنا أصدقُ من المقال.
فقولُ هذه الجماعة في مسألة "مُوالاة الكُفار" مُتناقضٌ، كمن قال:
1) الإنسانُ يخرُجُ من الملّة بموالاة الكُفار بدُون استثناء.
2) الإنسانُ لا يَخرجُ من الملّة بموالاة بعض الكُفار.
المذهبُ الحقُّ:
هُو أن تقُولَ: "الإنسانُ يخرُجُ من الملّة بموالاة الكُفار بدُون استثناء".

المسالة الثانية الشرك الأكبر مُخرِجٌ من الملّة

(المسألةُ الثانية) الشرك الأكبر مُخرِجٌ من الملّة
(أولا) الإقرار والاعتراف:
قد مرّ بك أنَّهم قد أقرُّوا بأنّ الشرك الأكبر مُخرِجٌ من الملّة، لما قالُوا:
(ولا يُخرج من الملة من ذلك إلا الأكبر).
وجاء أيضا في رسالتهم قولهم:
(ونؤمنُ بألوهية الله تعالى، وأنه هو الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له وأن كل معبود سواه باطل، وعبادته باطلة. ﴿ذلك بأن الله هو الحق وأنما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير﴾ (الحج الآية 62).
ونجتنبُ جميع أنواع الشرك ونُحذِّرُ منها، كشرك القبور والطواف حولها، وتقديم النذور إليها والاستغاثة بالأموات")
فأثبتُوا:
1) أنّ الإيمان بألُوهية الله، والإيمانُ بالشركِ الأكبر لا يجتمعان في قلبٍ.
2) أنّ عُبَّاد القُبُور مُشركُون.
(ثانيا) التعطيل:
جاء في رسالتهم: (ونرى أنّ الصحيح من أقوال أهل العلم هو العذر بالجهل في أصول الدين وفروعه) ـ اهـ
وجاء في رسالتهم أيضا: (ونحكمُ بالإسلام لكل من نطق بالشهادتين أو أتى بما يدل على الإقرار أو عمل عملا من أعمال المسلمين، إلى أن يظهر منه خلافه).
فأثبتُوا:
1) أنّ عُبّاد القبُور ليسُوا بمشركين لأنّهم ينطقون بالشهادتين، ويُصلُّون.
2) أنّ شركهم لا يُخرجُهم من الملّة، لأنّهم جُهالٌ، يحسبُون أنّهم مُهتدُون.
فصار مذهبهم في هذه المسألة تناقُضا كمنْ قال:
1) عُبّادُ القبُور مُشرِكُون، وخارجُون من الملّة مُطلقًا.
2) وعُبّادُ القبُور مُؤمنُون، وليسُوا بخارجين من الملّة مُطلقًا.
ولذلك تجدُهم لا يرَون تكفير "عُبّاد القُبُور"، أو "العلمانيين"، المنكرين لاتِّباع شريعة الله، المُصرِّين على العمل بالشريعة البشرية الوضعية. وإن كفّرُوهم فهو تكفيرٌ نظريٌّ في الأذهان، ولا مكان لهُ في التعامُل.
فإن قيل لهم: "ألستم تقُولُون: أنّ الشرك الأكبر ضدُّ الإيمان، ولا يجتمعُ الإيمانُ والشرك الأكبر في قلب؟!!". يقُولُون: إنّهُ جاهلٌ. فالقاعدةُ الأولى لا تعملُ، لأنّ القاعدة الثانية تُناقضها، وتُزيلُ أثرها.
أمَّا قولهم: (ونحكمُ بالإسلام لكل من نطق بالشهادتين أو....، إلى أن يظهر منه خلافه). فهو كلامٌ فارغٌ لا يعملُون به، وإلا فما هو خلافُ الشهادتين الذي ينتظرُونه بعد رُؤيتهم للشرك الأكبر، وتقديم شريعة الكفرة على شريعة الله.
وكذلك قولهم: (ونرى أنّ الصحيح من أقوال أهل العلم هو العذر بالجهل في أصول الدين وفروعه)، فكذبٌ محضٌ، وليس عالمٌ يُقتدى به، من سلف الأمّة، قال: "إنَّ جاهل التّوحيد معذور بالجهل"، إن لم يكُونُوا يقصُدُون بـ"أهل العلم" الجاحظ المعتزلي، الذي أعذر جُهال المشركين بالجهل في الآخرة، لا في الدُنيا، وكفّرهُ بعضُ العُلماء لأجل هذه المقالة. أو "العنبري" الذي تاب من ذلك.
المذهبُ الحقُّ:
هو أن تقُول: "عُبّادُ القبُور -وكُلُّ من يعبُدُ غير الله عالما أو جاهلا- مُشرِكُون، وخارجُون من الملّة مُطلقًا، وتجبُ دعوتهم إلى التّوحيد".

المسألة الخامسة من لا يُكفّرُ الكافر فهو كافر

(المسألة الخامسة) من لا يُكفّرُ الكافر فهو كافر
(أولا) الإقرار والاعتراف:
(ولا نُكفِّرُ أحداً من أهل القبلة بمطلق المعاصي وارتكاب الكبائر مالم يستحلها كما تفعله الخوارج، أو ينكر معلوماً من الدين بالضرورة، أو يقترف ناقضاً من نواقض الإيمان.)
جاء في رسالتهم قولهم:
(ونرى أن قول أهل العلم:(من لم يكفر الكافر فهو كافر) ينطبق على من لم يكفر من كفره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بعينه كفرعون وأبي لهب وغيرهما، أو قال إن اليهود أو النصاري أو المجوس ليسو بكفار بل هم مسلمون، لأن ذلك ردّ لحكم الله عليهم بالكفر. أما من يختلف أهل العلم في تكفيره كتارك الصلاة، أويختلفون في حيثية استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، فتطبيق هذه القاعدة على هذه المسائل باب عظيم من أبواب الشر والفتنة".
فأثبتُوا:
1) أنَّ قاعدة (من لا يُكفِّر الكافرَ فهو كافرٌ) تنطبقُ على من لم يُكفّر من كفره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بعينه كفرعون وأبي لهب، أو بصفته كاليهود والنصاري والمجوس.
2) أنَّها لا تنطبقُ على من اخْتُلف في كُفره، كتارك الصلاة.
وهذا إثباتٌ صحيحٌ، ولكن لماذا لم يذكُرُوا "المُشركين"، والقُرآنُ يذكرُ المشركين أكثر من ذكره لليهُود والنّصارى والمجُوس؟. أليس عدمُ تكفير المشركين ردٌّ لحُكم الله؟.
أغلبُ الظنّ أنّهم تركُوا ذكرَ "المشركين" عمدًا، لأمرين:
(الأول) يدخُلُ في إطار هذا اللفظ الذين يعبُدُون غير الله، من النّاطقين بالشهادتين، وهم حريصُون في إخراج أولئك من دائرة "أهلِ الشرك".
(الثاني) علمُهم بأنّهم يُكفّرُون أنفسهم إذا ذكرُوا ذلك، فإن قالُوا: " قاعدة (من لا يُكفِّر الكافرَ فهو كافرٌ) تنطبقُ على من لم يُكفّر المشركين"، يُقالُ لهم على البداهة:
"القاعدةُ تنطبقُ عليكم، فتُوبُوا من الكُفرِ، وتبرَّؤُا من أهلِ الشركِ".
(ثانيا) التعطيل:
إنّهم مع إقرارهم بصحّة تكفير من كفّرهُ اللهُ لا يعملُون بهذا الأصل، بل يعملُون بأصلهم (نُكفِّرُ الأعمال ولا نُكفِّرُ الأعيان)، وأصلهم الآخر (التكفيرُ للعُلماء المُعتبرين والقضاة والحُكام).
جاء في الرسالة: "التكفير: حكم شرعي لايجوز إطلاقه دون بينة أو برهان من الله ورسوله، لما يترتب عليه من أحكام خطيرة كاستباحة الدماء وفساد الأنكحة وعدم التوريث وتحريم الذبائح وغيرها من الأحكام الشرعية، لذا لايحقُّ الإقدام عليه إلا للعلماء الراسخين الذين تحققت فيهم شروط الفتوى المعتبرة، والمخولين قضائيا بإصدار هذه الأحكام". ـ اهـ
فصار مذهبهم في هذه المسألة تناقُضا كمنْ قال:
1) تكفيرُ من لا يُكفّرُ مَنْ كفّرهُ اللهُ كالمشركين واليهُود والنصارى حقُّ.
2) تكفيرُ من لا يُكفّرُ من كفّرهُ اللهُ كالمشركين باطلٌ وشرٌّ وفتنةٌ.
المذهبُ الحقُّ:
هُو أن تقُولَ: "تكفيرُ من لا يُكفّرُ مَنْ كفّرهُ اللهُ كالمشركين واليهُود والنصارى حقُّ، ومن المعلُوم من الدّين بالضرُورة".

المسالة السابعة الاشتراك في المجالس التشريعيّة العلمانية كُفرٌ

(المسألة السابعة) الاشتراك في المجالس التشريعيّة العلمانية كُفرٌ
(أولا) الإقرار والاعتراف:
1) جاء في رسالة "منهج جماعة الاعتصام":
(ونرى أن الديمقراطية والعلمانية منظومة فكرية مناقضة للإسلام في حقيقتها وفلسفتها ؛ لأنها ردٌّ وامتناعٌ عن الالتزام بالشريعة ابتداء).
2) و جاء فيها:
(ونرى أن فصل الدين عن الدولة ضلالة ومروق وزندقة وأثر من آثار الغزو لهذه الأمة، وأن قيام الدين كما قال شيخ الإسلام بن تيمية:( بالكتاب الهادي والحديد الناصر) فإذا انفصل أحدهما عن الآخر كما تقول العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة، فسد الدين والدنيا؛ لذلك نعمل على جمعهما لقيام الدين واستقامة حياة العباد على منهج الله).
(ونرى أن الدساتير لاتكون إسلامية إلا بتقرير السيادة المطلقة والحاكمية العليا للشريعة الإسلامية أو أنها المصدرالوحيد للتشريع أوالنص على أن كل ما يتعارض مع الشريعة من القوانين أو اللوائح فهو باطل وأن يخلو الدستور من جميع ما يتعارض مع النصوص والإجماع).
(ونرى أن عبارة (دين الدولة هو الإسلام) الواردة في الدساتيرالعلمانية، لاتؤثر في حكمها؛ لأنها لاتصرح بالتزام الشريعة، بدليل التشريع المخالف للمعلوم من الدين بالضرورة الوارد في الدساتير نفسها وفي القوانين الأخرى.
ونرى أن عبارات (الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع) أو( الشريعة مصدر رئيسي للتشريع) أو(الشريعة مصدر أساسي للتشريع)أو(أن الشريعة مصدر من مصادر التشريع) عبارات مخادعة تتضمن تعدد مصادر التشريع المطلق المتساوي في الأحقية والإلزامية، وهذا شرك أكبر).
(ونرٍى أن قيام مجالس وبرلمانات على أساس التشريع المطلق شرك أكبر، وأنه يجب تحديد صلاحيتها في تنفيد الشريعة والاجتهاد فيما لا نص فيه).
فأثبتُوا:
1) أن الديمقراطية والعلمانية نظم فكرية مناقضة للإسلام. لأنها ردٌّ وامتناعٌ عن الالتزام بالشريعة ابتداء.
2) أن فصل الدِّين عن الدولة ضلالة ومروق وزندقة.
3) أنّ قولهم في الدساتير (دين الدولة هو الإسلام) لايُؤثر في حكمها.
4) أنَّ في الدساتير تشريعات مخالفة للمعلوم من الدين بالضرورة.
5) أنَّ القول بتعدُّد مصادر التشريع شركٌ أكبر.
6) أنَّ قيام (البرلمانات) على أساس التشريع المطلق شرك أكبر.
(ثانيا) التعطيل:
1) جاء في رسالتهم:
(وأما المشاركة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، في بلاد الإسلام أو في بلاد الكفر، فهي من المسائل التي يختلف فيها الحكم زمانا ومكانا وحالا، من جهة مدى تحقيقها للمصالح المشروعة. والدخول فيها بنية الإصلاح وتقليل الشر، تأويل سائغ، أفتى بموجبه أكثرعلماء العصر، بينما أفتى الآخرون بالتحريم. أما التكفير بذلك فهو غلو ومخالفة وشذوذ).
2) وجاء فيها:
(ونرى أن اختيار المسلمين من يمثلهم في المناصب الإدارية والخدمية المجردة التي ليس فيها تشريع مخالف لشرع الله لايدخل في المفهوم الكفري للديمقراطية، وكذلك اختيارأهل الحل والعقد لجماعة المسلمين من يرأسهم، بل إن ذلك أمر مشروع لقوله تعالى: ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾ (الشورى آية 38).
3) وجاء فيها:
(وأما الانتخابات بالترشيح والتصويت فإنها آلية ووسيلة، لا فكر ومنهج؛ لذا فهي جائزة في حد ذاتها إذا لم تتضمن مخالفات شرعية ولم تؤد إلى مفسدة راجحة).
4) وجاء فيها:
(ونرى أن الديمقراطية والعلمانية منظومة فكرية مناقضة للإسلام في حقيقتها وفلسفتها؛ لأنها ردٌّ وامتناعٌ عن الالتزام بالشريعة ابتداء.ولكن المنتمين لهذه المذاهب العصرية الهدامة على أقسام:-
فمنهم المدرك لحقيقتها وأنها حرب على الإسلام وأهله فيعتنقها وينشرها فهولاء متلبسون بكفر أكبر، ومنهم من لا يعلم حقيقتها، إنما لبس عليه وظن أنها تدعواإلى العدل والحرية والتقدم، ومنهم من ينتمي إلى أحزاب هذه المذاهب لأسباب مادية بحتة دون انتماء فكري معين، فهولاء يعلّمون من الجهل وينبهون من الغفلة) ـ اهـ
فأثبتُوا:
1) أنَّ الدخُول في مجلس هيئة التشريع، والمشاركة في انتخاباتها البرلمانية والرئاسية، في البلاد التي تدّعي الإسلام، أو في غيرها من البلاد الكافرة جائز.
2) وأنْ لا بأس في اختيار "الطاغُوت"، الذي يقُودُ البلاد بالدستُور الوضعي.
3) وأنْ لا بأس في اختيار رئيس مجلس المُشرِّعين، أو مُشرِّعي البلاد.
4) وأنّ الدخُول في الكفرِ، بنيّة الإصلاح، وتقليل الشرِّ جائزٌ.
5) وأنّ الدخُول في الكفرِ، لغرض مادّي لا يُوجبُ كُفرًا.
فصار مذهبهم في هذه المسألة تناقُضا، كمن قال:
1) العملُ بالديمقراطية كُفرٌ، وليس بكُفرٍ.
2) مجلسُ البرلمان كفرةٌ، اجتمعُوا على أمرٍ كُفرٍ، وهم مسلمُون يختارُون من يُمثِّلهم.
3) التشريعُ من دون الله كُفرٌ، وانتخابُ المُشرِّعين من دون الله ليس بكُفرٍ.
المذهبُ الحقُّ:
هو أنْ تقُول: "العضويةُ في مجلس المشرِّعين كُفرٌ". و"انتخابُ الطاغُوت إيمانٌ به". و"العملُ على أساس أنّ السلطة للشعب، وأنّ الشرع هو رأيُ الأغلبية، وأنّ المسلم كالكافر، وأنّ الذكر كالأنثى، كُلُّ ذلك كُفرٌ بربِّ العالمين".
وقولهم:
(فمنهم المدرك لحقيقتها وأنها حرب على الإسلام وأهله فيعتنقها وينشرها فهولاء متلبسون بكفر أكبر، ومنهم من لا يعلم حقيقتها، إنما لبس عليه وظن أنها تدعواإلى العدل والحرية والتقدم، ومنهم من ينتمي إلى أحزاب هذه المذاهب لأسباب مادية بحتة دون انتماء فكري معين، فهولاء يعلّمون من الجهل وينبهون من الغفلة) ـ اهـ
فمُرادُهم: "إنَّ الديمقراطية كُفرٌ أكبر، ولكنّ الذين لا يعلمُون بحقيقتها مُسلمُون لجهلهم".
قُلتُ: "وهل كفّرُوا الذين يتَّبعُونها على علمٍ واختيار؟؟، لا لم يُكفّرُوهم لقواعدهم الأخرى التي تجعلُ الكُفار مُسلمين!!".
وقولهم:
(ونرى أن اختيار المسلمين من يمثلهم في المناصب الإدارية والخدمية المجردة التي ليس فيها تشريع مخالف لشرع الله لايدخل في المفهوم الكفري للديمقراطية، وكذلك اختيارأهل الحل والعقد لجماعة المسلمين من يرأسهم، بل إن ذلك أمر مشروع لقوله تعالى: ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾ (الشورى آية 38).
وقولهم:
(وأما الانتخابات بالترشيح والتصويت فإنها آلية ووسيلة، لا فكر ومنهج؛ لذا فهي جائزة في حد ذاتها إذا لم تتضمن مخالفات شرعية ولم تؤد إلى مفسدة راجحة).
قلتُ: "هُنا يُوهمُون بأنَّ طريقة اختيار الرئيس، ورئيس البرلمان مشرُوعة، والحقُّ أنّ الذين يختارُون الرئيس، ورئيس البرلمان، هم العلمانيُون ولا يختارُون من يختارُون إلا بشرط أن يقُودهم بدستورهم العلمانيّ بإخلاص، فهل هذا أمرٌ مشروعٌ مُوافق لآية الشورى"؟!!.
وقولهم:
(والدخول فيها بنية الإصلاح وتقليل الشر، تأويل سائغ، أفتى بموجبه أكثرعلماء العصر)

قُلتُ: "لا يجُوزُ الدُخُول في الكُفر الأكبر بنية الإصلاح وتقليل الشرِّ، ومن أجاز ذلك فقد أجاز الكُفرَ، وهل يجُوزُ الدُخُول في اليهُودية أو النَّصرانية بنية الإصلاح وتقليل الشرِّ؟!!". وهل عبد الوثنيُّون اللات والعُزى إلا بنيّة الإصلاح وتقليل الشرِّ؟!!".

المسالة الرابعة الكافر المنتسِب كغير المُنتسب في الدُنيا والآخرة

(المسألة الرابعة) الكافر المنتسِب كغير المُنتسب في الدُنيا والآخرة
(أولا) الإقرار والاعتراف:
قد جاء في رسالة منهج الاعتصام قولهم:
(ونعتقد أن الكفرمنه أكبر وأصغر وأن الشرك والنفاق كذالك، وأن الظلم ظلمان والفسق فسقان والمعصية معصيتان والتولي عن الطاعة نوعان، ولا يخرج من الملة من ذلك إلا الأكبر. ونعتقد أنّ القلب قد يجتمع فيه إيمان ونفاق أو كفرلا يُخرجان من الملّة، وقد يجتمع فيه توحيد وشرك أصغر.)
وقولهم:
(ولا نُكفِّرُ أحداً من أهل القبلة بمطلق المعاصي وارتكاب الكبائر مالم يستحلها كما تفعله الخوارج، أو ينكر معلوماً من الدين بالضرورة، أو يقترف ناقضاً من نواقض الإيمان.)
فأثبتُوا:
1) أنّ من وقع في الشرك الأكبر، قد خرج من ملّة الإسلام، ودخل في ملّة الكُفرِ.
2) أنّ الكافر المُنتسب إلى الإسلام كغير المُنتسب، من جهة أنّهم على ملّة واحدة.
3) أنَّهُم يُكفِّرُون المعدُود من أهل القبلة في ثلاث حالات:
(الأولى) إذا استحلّ المعاصي.
(الثانية) إذا أنكر معلوماً من الدين بالضرورة.
(الثالثة) إذا اقترف ناقضاً من نواقض الإيمان.
(ثانيا) التعطيل:
إنّهم مع إقرارهم بدخول المنتسب إلى الإسلام في ملّة الكُفرِ بهذه الأمُور الثلاث، إلا إنّهم لا يعملُون بذلك، ويجعلُون فاعل هذه الأمُور أخا في الدِّين، ويجعلُون من يُكفّرهُ من الخوارج المارقين. ويُدافعُون عنه بقواعدهم المعرُوفة، مثل (الإعذارُ بالجهل في أُصُولِ الدِّين)، و(الأصل في النّاطق بالشهادتين أنه مسلم) وغيرها.
وإذا لم ينفعْهم كُلُّ ذلك، لجؤا إلى معقلهم الأخير قائلين: "نحنُ نُكفِّرُ الأعمال، ولا نُكفِّرُ الأعيان". جاء في رسالتهم:
"ونرى التفريق بين التكفير المطلق وهو تعليق الكفر على وصف عام لا يختص بفرد معين، كأن يقال من قال كذا كفر… وبين تكفير المعين وهو تنْزيل الحكم على شخص معين كأن يقال كفر فلان ويُسمَّي.
فالأول: من باب بيان الأحكام ودعوة الناس إلى التوحيد وتحذيرهم من الشرك وهذا من شأن الدعاة والعلماء عامة.
وأما الثاني: فهو من باب تنزيل الأحكام على أفراد معينين وهو من شأن أهل الفتوى وأجهزة القضاء المختصة القادرة على الإجراءات الضرورية للتحقيق في مثل هذا الأمر." ـ اهـ
فصار مذهبهم في هذه المسألة تناقُضا كمنْ قال:
1) إنّ الكافر المُنتسب إلى الإسلام كغير المُنتسب.
2) إنّ الكافر المُنتسب إلى الإسلام ليس كغير المُنتسب.
وقال:
1) نُكفِّرُ المعدُود من أهل القبلة في ثلاث حالات:
(الأولى) إذا استحلّ المعاصي.
(الثانية) إذا أنكر معلوماً من الدين بالضرورة.
(الثالثة) إذا اقترف ناقضاً من نواقض الإيمان.
2) لا نُكفِّرُ المعدُود من أهل القبلة في الحالات الثلاث، لأنّنا دُعاةٌ لا قُضاةٌ، و لأنّنا نُكفِّرُ الأعمال، ولا نُكفّرُ الأعيان.
المذهبُ الحقُّ:
هُو أن تقُولَ بلا تردُّد ولا تلعثُم:
1) أنّ من وقع في الشرك الأكبر، قد خرج من ملّة الإسلام، ودخل في ملّة الكُفرِ.
2) أنّ الكافر المُنتسب إلى الإسلام كغير المُنتسب، من جهة أنّهم على ملّة واحدة.
3) نُكفِّرُ المعدُود من أهل القبلة إذا وقع في الكفر الأكبر، كهذه الحالات:
(الأولى) إذا استحلّ المعاصي.
(الثانية) إذا أنكر معلوماً من الدين بالضرورة.
(الثالثة) إذا اقترف ناقضاً من نواقض الإيمان.

المسالة السادسة يَكْفرُ المسلمُ بفعل الكُفرِ وإن لم يستحلّ

(المسألة السادسة) يَكْفرُ المسلمُ بفعل الكُفرِ وإن لم يستحلّ
(أولا) الإقرار والاعتراف:
جاء في رسالتهم:
("والكفر الناقل عن الملّة يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، ولايشترط في التكفير بالكفر الأكبر استحلال الفاعل لذلك؛ فإن الاستحلال لما حرّم الله كفرٌ بذاته.)
فأثبتُوا:
1) أنَّ من فعل الكفر الأكبر يكفُر، وإن كان ناطقا بالشهادتين.
2) لايشترطُ في التكفير بالكفر الأكبر استحلال الفاعل لذلك.
(ثانيا) التعطيل:
هذا الّذي أثبتُوهُ ليس بثابت عندهم، ولا مجال له في واقعهم، وهو من المبادئ التي أماتُوها بقواعدهم، مثل:
(الإعذارُ بالجهل في أُصُولِ الدِّين)
و(الأصل في النّاطق بالشهادتين أنه مسلم)
و(نُكفِّرُ الأعمال ولا نُكفِّرُ الأعيان)
و(التكفير للعلماء والحكام).
فهم يرون جماعات من عُبّاد المقابر يفعلُون الشرك الأكبر، ويجهرُون به، ويرون الدساتير الوضعية الكفرية تعملُ، ويرون حكام البلاد يحلفُون بالله ليعملُنَّ بها بإخلاص، ويرون المحاكم تعملُ بقانُون العُقُوبات الإيطالي أكثر من خمسين سنة، وهم لا يَزالُون يُثبتُون إسلامهم بقواعدهم المُعطِلةِ المدمرة لأصل الدِّين.
فصار مذهبهم في هذه المسألة تناقُضا كمنْ قال:
1) الإنسانُ يخرُجُ من الملّة بفعلِ الكُفر الأكبر بدُون استحلال.
2) والإنسانُ لا يُخرجُ من الملّة بفعلِ الكُفر الأكبر بدُون استحلال.
المذهبُ الحقُّ:
هُو أن تقُولَ: "الإنسانُ يخرُجُ من الملّة بفعلِ الكُفر الأكبر بدُون استحلال".

المسألة العاشرة الشعبُ الصُومالي غلب عليه الشركُ

(المسألة العاشرة) الشعبُ الصُومالي غلب عليه الشركُ
الإقرارُ والاعتراف:
1) جاء في رسالتهم:
(وهي جماعة دعوية قامت من أجل دعوة التوحيد ونشر العقيدة والسّنة لاستئناف حياة إسلامية شاملة. وتنتهج هذه الجماعة لتحقيق ذلك المنهج السلفي في العلم والعمل والدعوة إلى الله).
2) وجاء فيها:
(إن محاولة تصحيح عقائد الناس وتغيير واقعهم الاجتماعي والسياسي عملية شاقة ومعترك صعب وهي التي من أجلها لاقى الرسل الأذى من أقوامهم، فالعاملون لهذا الدين لا يصلح لهم أن يدخلوا في خضم هذه المعركة بدون زاد واستعداد، قال تعالى : ﴿وتزودوا فإن خير الزاد التقوى﴾ (البقرة، الآية 197).
فأثبتُوا:
1) أنَّ الشرك غلب على النّاس، وأنّهم في حاجّة إلى دعوة التَّوحيد.
2) أنَّ جماعتهم قامت لأجل دعوة التوحيد ونشر العقيدة والسّنة لاستئناف حياة إسلامية شاملة.
3) أنَّ محاولة تصحيح عقائد الناس وتغيير واقعهم عملية شاقة ومعترك صعب.
4) أنّ داعية التّوحيد سيُلاقِي الأذى من قومه، مثل ما لاقى الرسل من أقوامهم، فالعاملون لهذا الدِّين لا يصلُح لهم أن يدخلوا في خضم هذه المعركة بدون زاد واستعداد.
التعطيل:
1) جاء في رسالتهم:
(الشعب الصومالي شعبٌ مسلم، يحتاج إلى تصحيح عقيدته وتقويم سلوكه وتهذيب أخلاقه وإصلاح نظم حياته).
2) وجاء فيها:
(ونرى أن الأصل في مستور الحال في بلاد المسلمين أنه مسلم، عرفناه أو لم نعرفه، حتى يظهر ما يخالف ذلك.)
(ومن ثبت له عقد الإسلام في الظاهرفلا يسلب منه حكم الإسلام إلابيقين بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع التي عند علماء السنة، وصدور الفتوى من العلماء المعتبرين، أوصدور الحكم من القضاء الشرعي المخول).
فأثبتُوا:
1) أنّ الشعبَ الصُوماليَّ شعبٌ مُسلمٌ، أيْ: لا يُشركُ بالله شيئًا. وفي الحديث: "الإسلام أن تعبُد الله ولا تُشرك به شيئًا" (متّفق عليه)
2) أنّ مستُور الحال منهم مسلمٌ.
3) أنّ الشعبَ الصُوماليَّ قد جمع الشرك والإسلام، وهو مُسلم.
4) لا يجُوزُ تكفير أحد من الصُوماليين، إلا بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع التي عند علماء السنة، وصدور الفتوى من العلماء المعتبرين، أوصدور الحكم من القضاء الشرعي المخول.
فصار موقفهم مُتناقضا، كمن قال:
1) الشعبُ الصُوماليُّ يُشركُ بالله، ويحتاجُ إلى مواجهة كمواجهة الرسُلِ لأقوامهم المشركين.
2) الشعبُ الصُوماليُّ لا يُشركُ بالله شيئًا، ولا يحتاجُ إلى مواجهة كمواجهة الرسُلِ لأقوامهم المشركين.
المذهبُ الحقّ
هو أنَّ تقول:
1) الشعبُ الصُوماليُّ يُشركُ بالله، ويحتاجُ إلى مواجهة كمواجهة الرسُلِ لأقوامهم المشركين.
2) أظهرُوا الطاعة والاتِّباع للقادة العلمانيين، وأظهرُوا العمل بالدساتير الوضعية المحاربة للإسلام، فصارت دارُهم دارَ كُفرٍ. وهم مثلُ التتار النّاطقين بالشهادتين، الذين كفّرهم "الإمامُ ابن تيمية"، و"ابن كثير"، لأجل عملهم بقانُونهم الوضعي، المسمّى بـ"الياسق"، الذي وضعهُ لهم ملكُهم "جنكز خان".
3) ومن الصُوماليين من يعبُدُ الله ولا يشركُ به شيئًا، ويتبرّاُ من الشرك وأهله.
4) المسلم الحقيقي لا يكُونُ كافرًا بتكفير أحد إيّاهُ، ولا مبتدعًا بتبديعه إيّاهُ. والمُشرِكُ مُشرِكٌ، وإن أثنى عليه النّاسُ.
أمّا قولهم:
(ومن ثبت له عقد الإسلام في الظاهرفلا يسلب منه حكم الإسلام إلابيقين بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع التي عند علماء السنة، وصدور الفتوى من العلماء المعتبرين، أوصدور الحكم من القضاء الشرعي المخول). اهـ
فهو من تلبيساتهم، وهو تهرُّبٌ من الحقيقة الواقعة، وليس إيمانا بمبدإ، وانقيادًا لأدلّة، يدلُّ على ذلك:
(أولا) إنّهم عند الحديث عن أهلِ الشرك، يقفُون موقف المدافع، ويستشهدُون بقواعدهم المُزَحْزحَة عن مواضعها الفقهيّة الأصلية، مثل:
1) يقُولُ "لا إله إلا الله".
2) معذُور بالجهل.
3) لا يجُوزُ تكفيرُ أو تبديعُ المعيّن.
4) نُكفِّرُ الأعمال، ولا نُكفِّرُ الأعيان.
5) استيفاء الشُرُوط وانتفاء الموانع.
6) نحنُ دُعاةٌ لا قُضاةٌ، وتنْزيلُ الأحكام للقُضاة.
أمّا عند الحديث عن أهلِ التّوحيد، البريئين من الشركِ وأهله، فإنّهم ينسون قواعدهم، فلا اعتبار لقول "لا إله إلا الله"، ولا إعذار بالجهل، ولا استيفاء لشرُوط، ولا توقف عن تكفير أو تبديع المعيّنين، وينسون أنّهم دُعاةٌ، فيتحوّلُون إلى قُضاة، ويُبيحُون دماء أهل التّوحيد المُعيّنين، أمام الملأ من النّاس.
(ثانيا) إنّهم دائما يلهثُون وراء السلطات العلمانية الكافرة، وهم يعلمُون ما هُم عليه من الكُفرِ، للوقيعة بأهلِ التّوحيد، يقُولُون: "احذرُوا خطر الخوارج"!!. فهم واقعُون بين طائفة تؤمنُ بالديمقراطية، وبالدستُور الوضعي، وتُوالِي اليهُود والنَّصارى، وبين طائفة تعبُدُ الله ولا تُشركُ به شيئًا، وتُكفِّرُ من كفَّرهُ اللهُ، فنصرُوا الأولى وعادُوا أهل الحقِّ.
(ثالثا) قولهم: (وصدور الفتوى من العلماء المعتبرين، أوصدور الحكم من القضاء الشرعي المخول).
معناهُ لا يكفُرُ أحدٌ في بلاد الصُومال، وإن كفر كُفرًا بواحًا، لأنّهم اشترطُوا لتكفير الكافر شرطين مُستحيلين:
(الأول) أن تصدُر الفتوى بالتكفير من عُلماء مُعتبرين:
يُعنُون علماء جماعتهم، وهذا معلوم باستحالته، لأن قواعد هذه الجماعة ليست ثابته، ومن كفرُوهُ بقاعدة، جعلُوهُ مُسلما بقاعدة أخرى، فلا يُنتظرُ منهم أن يحكُمُوا على مُعيَّنٍ بشيءٍ، إلا أن يكُونَ المُعيَّنُ من جماعة الموحدين، البريئين من الشرك وأهله. أو من جماعة في حرب دمويّ ضدّهم.
(الثاني) أن يُكفِّرهُ القاضي الشرعي:
فإن كان قصدُهم من كلمة "القاضي الشرعي"، الحاكم بغير ما أنزل اللهُ، فإنَّ هذا مُستحيلٌ، لأنّ الحاكم بغير ما أنزل اللهُ، يستوي عندهُ المُسلم والكافرُ، في الحقُوق والواجبات، وفي الكرامة الاجتماعية. والردّة عندهُ من المُباحات، وداخلةٌ في الحريات الشخصية، التي يصُونها دُستُورهم لجميع النّاس على اختلاف الأديان.
وإن كان قصدُهم من كلمة "القاضي الشرعي"، الحاكم بما أنزل اللهُ، فإنَّ هذا مُستحيلٌ أيضا، لكونه غير موجُود، و لكونه لا يأتي إلا بمكابدة الصعاب، والتجرُّد للجهاد، والجهادُ عندهم لا يقُومُ إلا بإذن حكام اليوم العلمانيين!!، أئمَّة المسلمين عندهم!!. فمعنى ذلك: "لا تُكفّرُوا أحدًا، وقع في الكُفرِ البواحِ، حتى يُقيمَ العلمانيُّ حاكما يحكمُ بما أنزل اللهُ ويُكفّر الكافرين!!".
وكُلُّ هذا مما يضعُهم موضع تُهمة، إذ لو كان فيهم غيرة للدّين لقالُوا: "البدعة أخفُّ من الشركِ الأكبر"، و"الخوارجُ أقربُ من المشركين". فعكسُوا القضية، وقالُوا بلسان حالهم: "الشركُ الأكبرُ أخفُّ من البدعة"، و"المشركُون أقربُ من الخوارج". ولا غرابة في هذا من قومٍ، يقُومُ دينُهُم على أسُسٍ متعارضة مُتناقضة، يهدُمُ آخرُهُ أولُهُ، ويأخُذُ بشماله ما يُعطي بيمينه.

أولا خطرُ اليهُود

(الفصلُ الثاني): خطة التدمير من الداخل
(أولا) خطرُ اليهُود:
لقد اشتهرت اليهُود بالكيد اللئيم، وبذل الجُهُود الجبَّارة، لصرف الحقِّ عن العباد، لتظلّ الجماهير البشرية في شُرُود وضلال عن الله، ولتكُون العقيدة كنزًا لهم يحتكرُونه، ويستأثرُونه لأنفسهم من دُون النَّاس، حتى لا يجدَ غيرُ اليهُود البصيرة والقُوّة والحيوية، التي تمنحُها العقيدةُ لأهلها.
وصار تدميرُ العقائد والأديان عن غير اليهُود غايتهُم، وصار لهم منهجٌ ذو مراحلٍ للوصُولِ إلى تلك الغاية، وهو ما يُسمُّونهُ بخطّة "حصان طروادة".
وهي قصة إغريقية، خلاصتُها أنّ الإغريق صنعُوا حصانا ضخما أجوفَ، مصنُوعا من أخشابٍ قوية، وشحنُوهُ برجال مُسلّحين، وقدّمُوهُ هدية إلى أهل "طروادة"، التي طال حصارها عليهم، ثمّ تظاهرُوا بالانسحاب.
فلما انخدع أهلُ "طروادة"، الذين كانُوا يُقدّسُون تمثال الحصان، وظنُّوهُ آية السلام، وأدخلُوهُ البلد في احتفال كبير، نزل المسلّحون من جوف الحصان، في ظلام الليل، وفتحُوا أبواب البلد للغُزاة، فأعملُوا فيهم السيف، وقتلُوا الرجال، وسبوا النساء والذراري. فالقصّة عندهم رمزٌ لخطّة "التدمير من الداخل".
فاليهُودُ يُدمِّرون الأديان بهذه الخطّة الماكرة، يتظاهرُون باعتناق الدِّين، ويتعلّمُونهُ حتى يُعترف لهم بالعلم والفضل، ثُمَّ يدخلُون في مرحلة تالية، هي تغيير العقيدة، وإيقاع مُعتنقيها في تيهٍ لا يستطيعُون الخُرُوج منه.
فيُنسبُ إلى اليهُود ما أصاب "النصرانية" من الانحراف والارتداد إلى الوثنية في وقت مُبكِّر، وتأليه عيسى عليه السلام من دون الله. كما يُنسبُ إليهم حركة "ابن سبأ"، الذي كان من أصل يهُودي، والذي أحدث بدعة "تأليه علي بن أبي طالب"، بعد نيف وثلاثين سنة من وفاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وإليك بعضُ المقتطفات المُحذِّرة من خطر اليهُود، من كتاب "في ظلال القرآن":
1) ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾.
وذلك ما يفعله الحقد اللئيم بالنفوس .. الرغبة في سلب الخير الذي يهتدي إليه الآخرون .. لماذا؟. لا لأن هذه النفوس الشريرة لا تعلم. ولكنها لأنها تعلم! (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ).
والحسدُ هو ذلك الانفعال الأسود الخسيس الذي فاضت به نفوس اليهود تجاه الإسلام والمسلمين، ومازالت تفيض، وهو الذي انبعثت منه دسائسهم وتدبيراتهم كلها وما تزال. وهو الذي يكشفه القرآن للمسلمين ليعرفوه، ويعرفوا أنه السبب الكامن وراء كل جهود اليهود لزعزعة العقيدة في نفوسهم وردِّهم بعد ذلك إلى الكفر الذي كانوا فيه، والذي أنقذهم اللّه منه بالإيمان، وخصَّهم بهذا بأعظم الفضل وأجل النعمة التي تحسدهم عليها يهود!. ـ اهـ
2) ﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
قال: "كذلك يناديهم مرة أخرى ليفضح ما يقومون به من لبس الحق بالباطل لإخفائه وكتمانه وتضييعه في غمار الباطل، على علم وعن عمد وفي قصد .. وهو أمر مستنكر قبيح! وهذا الذي ندد الله به -سبحانه- من أعمال أهل الكتاب حينذاك، هو الأمر الذي درجوا عليه من وقتها حتى اللحظة الحاضرة .. فهذا طريقهم على مدار التاريخ .. اليهود بدأوا منذ اللحظة الأولى. ثم تابعهم الصليبيون!.
وفي خلال القرون المتطاولة دسوا - مع الأسف - في التراث الإسلامي ما لا سبيل إلى كشفه إلا بجهد القرون! ولبسوا الحق بالباطل في هذا التراث كله -اللهم إلا هذا الكتاب المحفوظ الذي تكفل الله بحفظه أبد الآبدين- والحمد للّه على فضله العظيم.
دسوا ولبسوا في التاريخ الإسلامي وأحداثه ورجاله. ودسوا ولبسوا في الحديث النبوي حتى قيض الله له رجاله الذين حققوه وحرروه إلا ما ند عن الجهد الإنساني المحدود.
ودسوا ولبسوا في التفسير القرآني حتى تركوه تيها لا يكاد الباحث يفيء فيه إلى معالم الطريق. ودسوا ولبسوا في الرجال أيضا. فالمئات والألوف كانوا دسيسة على التراث الإسلامي - وما يزالون في صورة المستشرقين وتلاميذ المستشرقين الذين يشغلون مناصب القيادة الفكرية اليوم في البلاد التي يقول أهلها : إنهم مسلمون. والعشرات من الشخصيات المدسوسة على الأمة المسلمة في صورة أبطال مصنوعين على عين الصهيونية والصليبية، ليؤدوا لأعداء الإسلام من الخدمات ما لا يملك هؤلاء الأعداء أن يؤدوه ظاهرين!
وما يزال هذا الكيد قائما ومطردا. وما تزال مثابة الأمان والنجاة منه هي اللياذ بهذا الكتاب المحفوظ والعودة إليه لاستشارته في المعركة الناشبة طوال هذه القرون. ـ اهـ
3) ﴿وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾.
وهي طريقة ما كرة لئيمة كما قلنا. فإن إظهارهم الإسلام ثم الرجوع عنه، يوقع بعض ضعاف النفوس والعقول وغير المتثبتين من حقيقة دينهم وطبيعته .. يوقعهم في بلبلة واضطراب. وبخاصة العرب الأميين، الذين كانوا يظنون أن أهل الكتاب أعرف منهم بطبيعة الديانات والكتب. فإذا رأوهم يؤمنون ثم يرتدون، حسبوا أنهم إنما ارتدوا بسبب اطلاعهم على خبيئة ونقص في هذا الدين. وتأرجحوا بين اتجاهين فلم يكن لهم ثبات على حال. وما تزال هذه الخدعة تتخذ حتى اليوم. في شتى الصور التي تناسب تطور الملابسات والناس في كل جيل.
ولقد يئس أعداء المسلمين أن تنطلي اليوم هذه الخدعة، فلجأت القوى المناهضة للإسلام في العالم إلى طرق شتى، كلها تقوم على تلك الخدعة القديمة.
إن لهذه القوى اليوم في أنحاء العالم الإسلامي جيشا جرارا من العملاء في صورة أساتذة وفلاسفة ودكاترة وباحثين -وأحيانا كتاب وشعراء وفنانين وصحفيين- يحملون أسماء المسلمين، لأنهم انحدروا من سلالة مسلمة! وبعضهم من "علماء" المسلمين!.
هذا الجيش من العملاء موجه لخلخلة العقيدة في النفوس بشتى الأساليب، في صورة بحث وعلم وأدب وفن وصحافة. وتوهين قواعدها من الأساس. والتهوين من شأن العقيدة والشريعة سواء. وتأويلها وتحميلها ما لا تطيق. والدق المتصل على "رجعيتها"! والدعوة للتفلت منها. وإبعادها عن مجال الحياة إشفاقا عليها من الحياة أو إشفاقا على الحياة منها! وابتداع تصورات ومثل وقواعد للشعور والسلوك تناقض وتحطم تصورات العقيدة ومثلها. وتزيين تلك التصورات المبتدعة بقدر تشويه التصورات والمثل الإيمانية. وإطلاق الشهوات من عقالها وسحق القاعدة الخلقية التي تستوي عليها العقيدة النظيفة لتخر في الوحل الذي ينثرونه في الأرض نثرا! ويشوهون التاريخ كله ويحرفونه كما يحرفون النصوص! وهم بعد مسلمون! أليسوا يحملون أسماء المسلمين؟.
وهم بهذه الأسماء المسلمة يعلنون الإسلام وجه النهار. وبهذه المحاولات المجرمة يكفرون آخره .. ويؤدون بهذه وتلك دور أهل الكتاب القديم. لا يتغير إلا الشكل والإطار في ذلك الدور القديم! وكان أهل الكتاب يقول بعضهم لبعض : تظاهروا بالإسلام أول النهار واكفروا آخره لعل المسلمين يرجعون عن دينهم. ـ اهـ
4) وأحسب -والله أعلم- أنه كان من ثمرة اليأس من هذا الدين أن عدل اليهود والصهيونيون والنصارى الصليبيون عن مواجهة الإسلام جهرة عن طريق الشيوعية أو عن طريق التبشير فعدلوا إلى طرائق أخبث، وإلى حبائل أمكر .. لجأوا إلى إقامة أنظمة وأوضاع في المنطقة كلها تتزيا بزي الإسلام وتتمسح في العقيدة ولا تنكر الدين جملة .. ثم هي تحت هذا الستار الخادع، تنفذ جميع المشروعات التي أشارت بها مؤتمرات التبشير وبروتوكولات صهيون، ثم عجزت عن تنفيذها كلها في المدى الطويل! إن هذه الأنظمة والأوضاع ترفع راية الإسلام - أو على الأقل تعلن احترامها للدين - بينما هي تحكم بغير ما أنزل اللّه وتقصي شريعة اللّه عن الحياة وتحل ما حرم اللّه وتنشر تصورات وقيما مادية عن الحياة والأخلاق تدمر التصورات والقيم الإسلامية وتسلط جميع أجهزة التوجيه والإعلام لتدمير القيم الأخلاقية الإسلامية، وسحق التصورات والاتجاهات الدينية وتنفذ ما نصت عليه مؤتمرات المبشرين وبروتوكولات الصهيونيين، من ضرورة إخراج المرأة المسلمة إلى الشارع، وجعلها فتنة للمجتمع، باسم التطور والتحضر ومصلحة العمل والإنتاج بينما ملايين الأيدي العاملة في هذه البلاد متعطلة لا تجد الكفاف! وتيسر وسائل الانحلال وتدفع الجنسين إليها دفعا بالعمل والتوجيه .. كل ذلك وهي تزعم أنها مسلمة وأنها تحترم العقيدة! والناس يتوهمون أنهم يعيشون في مجتمع مسلم، وأنهم هم كذلك مسلمون! أليس الطيبون منهم يصلون ويصومون؟
أما أن تكون الحاكمية لله وحده أو تكون للأرباب المتفرقة، فهذا ما قد خدعتهم عنه الصليبية والصهيونية والتبشير والاستعمار والاستشراق وأجهزة الإعلام الموجهة وأفهمتهم أنه لا علاقة له بالدين. وأن المسلمين يمكن أن يكونوا مسلمين وفي دين اللّه بينما حياتهم كلها تقوم على تصورات وقيم وشرائع وقوانين ليست من هذا الدين! وإمعانا في الخداع والتضليل وإمعانا من الصهيونية العالمية والصليبية العالمية في التخفي، فإنها تثير حروبا مصطنعة -باردة أو ساخنة- وعداوات مصطنعة في شتى الصور، بينها وبين هذه الأنظمة والأوضاع التي أقامتها والتي تكفلها بالمساعدات المادية والأدبية، وتحرسها بالقوى الظاهرة والخفية، وتجعل أقلام مخابراتها في خدمتها وحراستها المباشرة! تثير هذه الحروب المصطنعة والعداوات المصطنعة، لتزيد من عمق الخدعة ولتبعد الشبهة عن العملاء، الذين يقومون لها بما عجزت هي عن إتمامه في خلال ثلاثة قرون أو تزيد من تدمير القيم والأخلاق وسحق العقائد والتصورات وتجريد المسلمين في هذه الرقعة العريضة من مصدر قوتهم الأول .. وهو قيام حياتهم على أساس دينهم وشريعتهم .. وتنفيذ المخططات الرهيبة التي تضمنتها بروتوكولات الصهيونيين ومؤتمرات المبشرين في غفلة من الرقباء والعيون! فإذا بقيت بقية في هذه الرقعة لم تجز عليها الخدعة ولم تستسلم للتخدير باسم الدين المزيف وباسم الأجهزة الدينية المسخرة لتحريف الكلم عن مواضعه ولوصف الكفر بأنه الإسلام والفسق والفجور والانحلال، بأنه تطور وتقدم وتجدد ..
إذا بقيت بقية كهذه سلطت عليها الحرب الساحقة الماحقة وصبت عليها التهم الكاذبة الفاجرة وسحقت سحقا، بينما وكالات الأنباء العالمية وأجهزة الإعلام العالمية خرساء صماء عمياء!!! ذلك بينما الطيبون السذج من المسلمين يحسبون أنها معركة شخصية، أو طائفية، لا علاقة لها بالمعركة المشبوبة مع هذا الدين ويروحون يشتغلون في سذاجة بلهاء - من تأخذه الحمية للدين منهم وللأخلاق - بالتنبيه إلى مخالفات صغيرة، وإلى منكرات صغيرة، ويحسبون أنهم أدوا واجبهم كاملا بهذه الصيحات الخافتة .. بينما الدين كله يسحق سحقا، ويدمر من أساسه وبينما سلطان الله يغتصبه المغتصبون، وبينما الطاغوت -الذي أمروا أن يكفروا به- هو الذي يحكم حياة الناس جملة وتفصيلا! إن اليهود الصهيونيين والنصارى الصليبيين يفركون أيديهم فرحا بنجاح الخطة وجواز الخدعة بعد ما يئسوا من هذا الدين أن يقضوا عليه مواجهة باسم الإلحاد، أو يحولوا الناس عنه باسم التبشير، فترة طويلة من الزمان .. إلا أن الأمل في الله أكبر والثقة في هذا الدين أعمق، وهم يمكرون واللّه خير الماكرين. وهو الذي يقول : ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ، وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ. فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ﴾ ..ـ ا هـ
5) ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾.
لقد واجه اليهود الإسلام بالعداء منذ اللحظة الأولى التي قامت فيها دولة الإسلام بالمدينة. وكادوا للأمة المسلمة منذ اليوم الأول الذي أصبحت فيه أمة. وتضمن القرآن الكريم من التقريرات والإشارات عن هذا العداء وهذا الكيد ما يكفي وحده لتصوير تلك الحرب المريرة التي شنها اليهود على الإسلام وعلى رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - وعلى الأمة المسلمة في تاريخها الطويل والتي لم تخب لحظة واحدة قرابة أربعة عشر قرنا، وما تزال حتى اللحظة يتسعر أوارها في أرجاء الأرض جميعا
لقد عقد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أول مقدمه إلى المدينة، معاهدة تعايش مع اليهود ودعاهم إلى الإسلام الذي يصدق ما بين أيديهم من التوراة .. ولكنهم لم يفوا بهذا العهد - شأنهم في هذا كشأنهم مع كل عهد قطعوه مع ربهم أو مع أنبيائهم من قبل، حتى قال اللّه فيهم : ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ. أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ؟ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾
ولقد أضمروا العداء للإسلام والمسلمين منذ اليوم الأول الذي جمع اللّه فيه الأوس والخزرج على الإسلام، فلم يعد لليهود في صفوفهم مدخل ولا مخرج، ومنذ اليوم الذي تحددت فيه قيادة الأمة المسلمة وأمسك بزمامها محمد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فلم تعد لليهود فرصة للتسلط! ولقد استخدموا كل الأسلحة والوسائل التي تفتقت عنها عبقرية المكر اليهودية، وأفادتها من قرون السبي في بابل، والعبودية في مصر، والذل في الدولة الرومانية. ومع أن الإسلام قد وسعهم بعد ما ضاقت بهم الملل والنحل على مدار التاريخ، فإنهم ردوا للإسلام جميله عليهم أقبح الكيد وألأم المكر منذ اليوم الأول.
ولقد ألبوا على الإسلام والمسلمين كل قوى الجزيرة العربية المشركة وراحوا يجمعون القبائل المتفرقة لحرب الجماعة المسلمة : ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا : هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً﴾
ولما غلبهم الإسلام بقوة الحق -يوم أن كان الناس مسلمين- استداروا يكيدون له بدس المفتريات في كتبه -لم يسلم من هذا الدس إلا كتاب اللّه الذي تكفل بحفظه سبحانه- ويكيدون له بالدس بين صفوف المسلمين، وإثارة الفتن عن طريق استخدام حديثي العهد بالإسلام ومن ليس لهم فيه فقه من مسلمة الأقطار. ويكيدون له بتأليب خصومه عليه في أنحاء الأرض .. حتى انتهى بهم المطاف أن يكونوا في العصر الأخير هم الذين يقودون المعركة مع الإسلام في كل شبر على وجه الأرض وهم الذين يستخدمون الصليبية والوثنية في هذه الحرب الشاملة، وهم الذين يقيمون الأوضاع ويصنعون الأبطال الذين يتسمون بأسماء المسلمين، ويشنونها حربا صليبية صهيونية على كل جذر من جذور هذا الدين! وصدق اللّه العظيم".
قال: "إن الذي ألب الأحزاب على الدولة المسلمة الناشئة في المدينة وجمع بين اليهود من بني قريظة وغيرهم وبين قريش في مكة، وبين القبائل الأخرى في الجزيرة .. يهودي ..
والذي ألب العوام، وجمع الشراذم، وأطلق الشائعات، في فتنة مقتل عثمان -رضي اللّه عنه- وما تلاها من النكبات .. يهودي ..
والذي قاد حملة الوضع والكذب في أحاديث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وفي الروايات والسير .. يهودي ..
ثم إن الذي كان وراء إثارة النعرات القومية في دولة الخلافة الأخيرة ووراء الانقلابات التي ابتدأت بعزل الشريعة عن الحكم واستبدال «الدستور» بها في عهد السلطان عبد الحميد، ثم انتهت بإلغاء الخلافة جملة على يدي «البطل» أتاتورك .. يهودي.
وسائر ما تلا ذلك من الحرب المعلنة على طلائع البعث الإسلامي في كل مكان على وجه الأرض وراءه يهود! ثم لقد كان وراء النزعة المادية الإلحادية .. يهودي .. ووراء النّزعة الحيوانية الجنسية يهودي .. ووراء معظم النظريات الهدامة لكل المقدسات والضوابط يهود!
6) ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ﴾ "إن أهل الكتاب يعرفون أن هذا الكتاب حق من عند اللّه ويعرفون -من ثم- ما فيه من سلطان وقوة ومن خير وصلاح ومن طاقة دافعة للأمة التي تدين بالعقيدة التي جاء بها وبالأخلاق التي تنبثق منها وبالنظام الذي يقوم عليها. ويحسبون كل حساب لهذا الكتاب وأهله ويعلمون جيدا أن الأرض لا تسعهم وتسع أهل الدين! .. إنهم يعرفون ما فيه من حق، ويعرفون ما هم فيه من باطل .. ويعرفون أن الجاهلية التي صاروا إليها، وصارت إليها أوضاع قومهم وأخلاقهم وأنظمتهم، لا يمكن أن يهادنها هذا الدين، أو يبقي عليها .. وأنها -من ثم- معركة لا تهدأ حتى تجلو الجاهلية عن هذه الأرض، ويستعلي هذا الدين، ويكون الدين كله للّه .. أي أن يكون السلطان في الأرض كله للّه وأن يطارد المعتدون على سلطان اللّه في الأرض كلها. وبذلك وحده يكون الدين كله للّه.
إن أهل الكتاب يعلمون جيدا هذه الحقيقة في هذا الدين .. ويعرفونه بها كما يعرفون أبناءهم .. وهم جيلا بعد جيل يدرسون هذا الدين دراسة دقيقة عميقة وينقبون عن أسرار قوته وعن مداخله إلى النفوس ومساربه فيها ويبحثون بجد: كيف يستطيعون أن يفسدوا القوة الموجهة في هذا الدين؟ كيف يلقون بالريب والشكوك في قلوب أهله؟ كيف يحرفون الكلم فيه عن مواضعه؟ كيف يصدون أهله عن العلم الحقيقي به؟ كيف يحولونه من حركة دافعة تحطم الباطل والجاهلية وتسترد سلطان اللّه في الأرض وتطارد المعتدين على هذا السلطان، وتجعل الدين كله للّه .. إلى حركة ثقافية باردة، وإلى بحوث نظرية ميتة، وإلى جدل لاهوتي أو فقهي أو طائفي فارغ؟ كيف يفرغون مفهوماته في أوضاع وأنظمة وتصورات غريبة عنه مدمرة له، مع إيهام أهله أن عقيدتهم محترمة مصونة؟! كيف في النهاية يملأون فراغ العقيدة بتصورات أخرى ومفهومات أخرى واهتمامات أخرى، ليجهزوا على الجذور العاطفية الباقية من العقيدة الباهتة؟! إن أهل الكتاب يدرسون هذا الدين دراسة جادة عميقة فاحصة لا لأنهم يبحثون عن الحقيقة -كما يتوهم السذج من أهل هذا الدين!- ولا لينصفوا هذا الدين وأصله -كما يتصور بعض المخدوعين حينما يرون اعترافا من باحث أو مستشرق بجانب طيب في هذا الدين!- كلا! إنما هم يقومون بهذه الدراسة الجادة العميقة الفاحصة، لأنهم يبحثون عن مقتل لهذا الدين! لأنهم يبحثون عن منافذه ومساربه إلى الفطرة ليسدوها أو يميعوها! لأنهم يبحثون عن أسرار قوته ليقاوموه منها! لأنهم يريدون أن يعرفوا كيف يبني نفسه في النفوس ليبنوا على غراره التصورات المضادة التي يريدون ملء فراغ الناس بها! وهم من أجل هذه الأهداف والملابسات كلها يعرفونه كما يعرفون أبناءهم! ومن واجبنا نحن أن نعرف ذلك ..
وأن نعرف معه أننا نحن الأولى بأن نعرف ديننا كما نعرف أبناءنا! إن الواقع التاريخي من خلال أربعة عشر قرنا ينطق بحقيقة واحدة .. هي هذه الحقيقة التي يقررها القرآن الكريم في هذه الآية : ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ﴾ .. ولكن هذه الحقيقة تتضح في هذه الفترة وتتجلى بصورة خاصة .. إن البحوث التي تكتب عن الإسلام في هذه الفترة تصدر بمعدل كتاب كل أسبوع بلغة من اللغات الأجنبية .. وتنطق هذه البحوث بمدى معرفة أهل الكتاب بكل صغيرة وكبيرة عن طبيعة هذا الدين وتاريخه، ومصادر قوته، ووسائل مقاومته، وطرق إفساد توجيهه! ومعظمهم -بطبيعة الحال- لا يفصح عن نيته هذه فهم يعلمون أن الهجوم الصريح على هذا الدين كان يثير حماسة الدفاع والمقاومة وأن الحركات التي قامت لطرد الهجوم المسلح على هذا الدين -الممثل في الاستعمار- إنما كانت ترتكز على قاعدة من الوعي الديني أو على الأقل العاطفة الدينية وأن استمرار الهجوم على الإسلام -ولو في الصورة الفكرية- سيظل يثير حماسة الدفاع والمقاومة! لذلك يلجأ معظمهم إلى طريقة أخبث .. يلجأ إلى إزجاء الثناء لهذا الدين، حتى ينوم المشاعر المتوفزة، ويخدر الحماسة المتحفزة، وينال ثقة القارئ واطمئنانه .. ثم يضع السم في الكأس ويقدمها مترعة .. هذا الدين نعم عظيم .. ولكنه ينبغي أن يتطور بمفهوماته ويتطور كذلك بتنظيماته ليجاري الحضارة «الإنسانية» الحديثة! وينبغي ألا يقف موقف المعارضة للتطورات التي وقعت في أوضاع المجتمع، وفي أشكال الحكم، وفي قيم الأخلاق! وينبغي -في النهاية- أن يتمثل في صورة عقيدة في القلوب، ويدع الحياة الواقعية تنظمها نظريات وتجارب وأساليب الحضارة «الإنسانية» الحديثة! ويقف فقط ليبارك ما تقرره الأرباب الأرضية من هذه التجارب والأساليب .. وبذلك يظل دينا عظيما ..!!!
وفي أثناء عرض مواضع القوة والعمق في هذا الدين -وهي ظاهريا تبدو في صورة الإنصاف الخادع والثناء المخدر- يقصد المؤلف قومه من أهل الكتاب لينبههم إلى خطورة هذا الدين، وإلى أسرار قوته ويسير أمام الأجهزة المدمرة بهذا الضوء الكشاف، ليسددوا ضرباتهم على الهدف. وليعرفوا هذا الدين كما يعرفون أبناءهم! إن أسرار هذا القرآن ستظل تتكشف لأصحابه جديدة دائما كلما عاشوا في ظلاله وهم يخوضون معركة العقيدة ويتدبرون بوعي أحداث التاريخ ويطالعون بوعي أحداث الحاضر. ويرون بنور اللّه. الذي يكشف الحق، وينير الطريق ..
7) فهذا هو مسجد الضرار الذي أمر اللّه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ألا يقوم فيه، وأن يقوم في المسجد الأول -مسجد قباء- الذي أقيم على التقوى من أول يوم، والذي يضم رجالا يحبون أن يتطهروا. ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾.
هذا المسجد -مسجد الضرار- الذي اتخذ على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مكيدة للإسلام والمسلمين، لا يراد به إلا الإضرار بالمسلمين، وإلا الكفر باللّه، وإلا ستر المتآمرين على الجماعة المسلمة، الكائدين لها في الظلام، وإلا التعاون مع أعداء هذا الدين على الكيد له تحت ستار الدين ..
هذا المسجد ما يزال يتخذ في صور شتى تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها أعداء هذا الدين تتخذ في صورة نشاط ظاهره للإسلام وباطنه لسحق الإسلام، أو تشويهه وتمويهه وتمييعه! وتتخذ في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتتترس وراءها وهي ترمي هذا الدين! وتتخذ في صورة تشكيلات وتنظيمات وكتب وبحوث تتحدث عن الإسلام لتخدر القلقين الذين يرون الإسلام يذبح ويمحق، فتخدرهم هذه التشكيلات وتلك الكتب إلى أن الإسلام بخير لا خوف عليه ولا قلق!. وتتخذ في صور شتى كثيرة. اهـ
8) ﴿وكذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين﴾
"وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماءُ المسلمين، وهم من سلالات المسلمين. وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام. ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلاّ الله -بذلك المدلول- ولا الأوطان اليوم تَدين لله بمقتضى هذا المدلول. وهذا أشقّ ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام !
أشقّ ما تُعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلاّ الله، ومدلول الإسلام في جانب، وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر ..
أشقّ ما تُعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين، وطريق المشركين المجرمين، واختلاط الشارات والعناوين، والتباس الأسماء والصفات، والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق !
ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة، فيعكفون عليها توسيعاً وتمييعاً وتلبيساً وتخليطاً. حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام ! تهمة تكفير "المسلمين"!!! ويُصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألةً المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله!.
هذه هي المشقّة الكبرى وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بدّ أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل !
يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين .. ويجب ألاّ تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحقّ والفصل هوادة ولا مداهنة. وألاّ تأخذهم فيها خشية ولا خوف، وألاّ تُقْعِدُهم عنها لومة لائم، ولا صيحة صائح: انظروا ! إنهم يُكفِّرون المسلمين !
إن الإسلام ليس بهذا التميُّع الذي يظنّه المخدوعون! إن الإسلام بيِّن والكفر بيِّن .. الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله -بذلك المدلول- فمن لم يشهدها على هذا النحو، ومن لم يُقمها في الحياة على هذا النحو، فحكم الله ورسولِهِ فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين .. المجرمين .. ]وكذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين[
أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة، وأن تتمّ في نفوسهم هذه الاستبانة، كي تنطلق طاقاتهم كلُّها في سبيل الله لا تصدُّها شبهة، ولا يعوِّقها غَبَشٌ، ولا يميّعها لَبْسٌ. فإن طاقاتِهم لا تنطلق إلاّ إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم "المسلمون" وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدُّونهم ويصدُّون الناس عن سبيل الله هم "المجرمون" .
كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلاّ إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان. وأنهم وقومهم على مفرق الطريق، وأنهم على ملّة وقومهم على ملّة. وأنهم في دين وقومهم في دين: ﴿كذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين﴾. [في ظلال القرآن: م 2- ص 1105].

ب) الفصل الثاني خطّة التدمير من الداخل

(الفصلُ الثاني): خطة التدمير من الداخل
(أولا) خطرُ اليهُود:
لقد اشتهرت اليهُود بالكيد اللئيم، وبذل الجُهُود الجبَّارة، لصرف الحقِّ عن العباد، لتظلّ الجماهير البشرية في شُرُود وضلال عن الله، ولتكُون العقيدة كنزًا لهم يحتكرُونه، ويستأثرُونه لأنفسهم من دُون النَّاس، حتى لا يجدَ غيرُ اليهُود البصيرة والقُوّة والحيوية، التي تمنحُها العقيدةُ لأهلها.
وصار تدميرُ العقائد والأديان عن غير اليهُود غايتهُم، وصار لهم منهجٌ ذو مراحلٍ للوصُولِ إلى تلك الغاية، وهو ما يُسمُّونهُ بخطّة "حصان طروادة".
وهي قصة إغريقية، خلاصتُها أنّ الإغريق صنعُوا حصانا ضخما أجوفَ، مصنُوعا من أخشابٍ قوية، وشحنُوهُ برجال مُسلّحين، وقدّمُوهُ هدية إلى أهل "طروادة"، التي طال حصارها عليهم، ثمّ تظاهرُوا بالانسحاب.
فلما انخدع أهلُ "طروادة"، الذين كانُوا يُقدّسُون تمثال الحصان، وظنُّوهُ آية السلام، وأدخلُوهُ البلد في احتفال كبير، نزل المسلّحون من جوف الحصان، في ظلام الليل، وفتحُوا أبواب البلد للغُزاة، فأعملُوا فيهم السيف، وقتلُوا الرجال، وسبوا النساء والذراري. فالقصّة عندهم رمزٌ لخطّة "التدمير من الداخل".
فاليهُودُ يُدمِّرون الأديان بهذه الخطّة الماكرة، يتظاهرُون باعتناق الدِّين، ويتعلّمُونهُ حتى يُعترف لهم بالعلم والفضل، ثُمَّ يدخلُون في مرحلة تالية، هي تغيير العقيدة، وإيقاع مُعتنقيها في تيهٍ لا يستطيعُون الخُرُوج منه.
فيُنسبُ إلى اليهُود ما أصاب "النصرانية" من الانحراف والارتداد إلى الوثنية في وقت مُبكِّر، وتأليه عيسى عليه السلام من دون الله. كما يُنسبُ إليهم حركة "ابن سبأ"، الذي كان من أصل يهُودي، والذي أحدث بدعة "تأليه علي بن أبي طالب"، بعد نيف وثلاثين سنة من وفاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وإليك بعضُ المقتطفات المُحذِّرة من خطر اليهُود، من كتاب "في ظلال القرآن":
1) ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾.
وذلك ما يفعله الحقد اللئيم بالنفوس .. الرغبة في سلب الخير الذي يهتدي إليه الآخرون .. لماذا؟. لا لأن هذه النفوس الشريرة لا تعلم. ولكنها لأنها تعلم! (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ).
والحسدُ هو ذلك الانفعال الأسود الخسيس الذي فاضت به نفوس اليهود تجاه الإسلام والمسلمين، ومازالت تفيض، وهو الذي انبعثت منه دسائسهم وتدبيراتهم كلها وما تزال. وهو الذي يكشفه القرآن للمسلمين ليعرفوه، ويعرفوا أنه السبب الكامن وراء كل جهود اليهود لزعزعة العقيدة في نفوسهم وردِّهم بعد ذلك إلى الكفر الذي كانوا فيه، والذي أنقذهم اللّه منه بالإيمان، وخصَّهم بهذا بأعظم الفضل وأجل النعمة التي تحسدهم عليها يهود!. ـ اهـ
2) ﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
قال: "كذلك يناديهم مرة أخرى ليفضح ما يقومون به من لبس الحق بالباطل لإخفائه وكتمانه وتضييعه في غمار الباطل، على علم وعن عمد وفي قصد .. وهو أمر مستنكر قبيح! وهذا الذي ندد الله به -سبحانه- من أعمال أهل الكتاب حينذاك، هو الأمر الذي درجوا عليه من وقتها حتى اللحظة الحاضرة .. فهذا طريقهم على مدار التاريخ .. اليهود بدأوا منذ اللحظة الأولى. ثم تابعهم الصليبيون!.
وفي خلال القرون المتطاولة دسوا - مع الأسف - في التراث الإسلامي ما لا سبيل إلى كشفه إلا بجهد القرون! ولبسوا الحق بالباطل في هذا التراث كله -اللهم إلا هذا الكتاب المحفوظ الذي تكفل الله بحفظه أبد الآبدين- والحمد للّه على فضله العظيم.
دسوا ولبسوا في التاريخ الإسلامي وأحداثه ورجاله. ودسوا ولبسوا في الحديث النبوي حتى قيض الله له رجاله الذين حققوه وحرروه إلا ما ند عن الجهد الإنساني المحدود.
ودسوا ولبسوا في التفسير القرآني حتى تركوه تيها لا يكاد الباحث يفيء فيه إلى معالم الطريق. ودسوا ولبسوا في الرجال أيضا. فالمئات والألوف كانوا دسيسة على التراث الإسلامي - وما يزالون في صورة المستشرقين وتلاميذ المستشرقين الذين يشغلون مناصب القيادة الفكرية اليوم في البلاد التي يقول أهلها : إنهم مسلمون. والعشرات من الشخصيات المدسوسة على الأمة المسلمة في صورة أبطال مصنوعين على عين الصهيونية والصليبية، ليؤدوا لأعداء الإسلام من الخدمات ما لا يملك هؤلاء الأعداء أن يؤدوه ظاهرين!
وما يزال هذا الكيد قائما ومطردا. وما تزال مثابة الأمان والنجاة منه هي اللياذ بهذا الكتاب المحفوظ والعودة إليه لاستشارته في المعركة الناشبة طوال هذه القرون. ـ اهـ
3) ﴿وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ﴾.
وهي طريقة ما كرة لئيمة كما قلنا. فإن إظهارهم الإسلام ثم الرجوع عنه، يوقع بعض ضعاف النفوس والعقول وغير المتثبتين من حقيقة دينهم وطبيعته .. يوقعهم في بلبلة واضطراب. وبخاصة العرب الأميين، الذين كانوا يظنون أن أهل الكتاب أعرف منهم بطبيعة الديانات والكتب. فإذا رأوهم يؤمنون ثم يرتدون، حسبوا أنهم إنما ارتدوا بسبب اطلاعهم على خبيئة ونقص في هذا الدين. وتأرجحوا بين اتجاهين فلم يكن لهم ثبات على حال. وما تزال هذه الخدعة تتخذ حتى اليوم. في شتى الصور التي تناسب تطور الملابسات والناس في كل جيل.
ولقد يئس أعداء المسلمين أن تنطلي اليوم هذه الخدعة، فلجأت القوى المناهضة للإسلام في العالم إلى طرق شتى، كلها تقوم على تلك الخدعة القديمة.
إن لهذه القوى اليوم في أنحاء العالم الإسلامي جيشا جرارا من العملاء في صورة أساتذة وفلاسفة ودكاترة وباحثين -وأحيانا كتاب وشعراء وفنانين وصحفيين- يحملون أسماء المسلمين، لأنهم انحدروا من سلالة مسلمة! وبعضهم من "علماء" المسلمين!.
هذا الجيش من العملاء موجه لخلخلة العقيدة في النفوس بشتى الأساليب، في صورة بحث وعلم وأدب وفن وصحافة. وتوهين قواعدها من الأساس. والتهوين من شأن العقيدة والشريعة سواء. وتأويلها وتحميلها ما لا تطيق. والدق المتصل على "رجعيتها"! والدعوة للتفلت منها. وإبعادها عن مجال الحياة إشفاقا عليها من الحياة أو إشفاقا على الحياة منها! وابتداع تصورات ومثل وقواعد للشعور والسلوك تناقض وتحطم تصورات العقيدة ومثلها. وتزيين تلك التصورات المبتدعة بقدر تشويه التصورات والمثل الإيمانية. وإطلاق الشهوات من عقالها وسحق القاعدة الخلقية التي تستوي عليها العقيدة النظيفة لتخر في الوحل الذي ينثرونه في الأرض نثرا! ويشوهون التاريخ كله ويحرفونه كما يحرفون النصوص! وهم بعد مسلمون! أليسوا يحملون أسماء المسلمين؟.
وهم بهذه الأسماء المسلمة يعلنون الإسلام وجه النهار. وبهذه المحاولات المجرمة يكفرون آخره .. ويؤدون بهذه وتلك دور أهل الكتاب القديم. لا يتغير إلا الشكل والإطار في ذلك الدور القديم! وكان أهل الكتاب يقول بعضهم لبعض : تظاهروا بالإسلام أول النهار واكفروا آخره لعل المسلمين يرجعون عن دينهم. ـ اهـ
4) وأحسب -والله أعلم- أنه كان من ثمرة اليأس من هذا الدين أن عدل اليهود والصهيونيون والنصارى الصليبيون عن مواجهة الإسلام جهرة عن طريق الشيوعية أو عن طريق التبشير فعدلوا إلى طرائق أخبث، وإلى حبائل أمكر .. لجأوا إلى إقامة أنظمة وأوضاع في المنطقة كلها تتزيا بزي الإسلام وتتمسح في العقيدة ولا تنكر الدين جملة .. ثم هي تحت هذا الستار الخادع، تنفذ جميع المشروعات التي أشارت بها مؤتمرات التبشير وبروتوكولات صهيون، ثم عجزت عن تنفيذها كلها في المدى الطويل! إن هذه الأنظمة والأوضاع ترفع راية الإسلام - أو على الأقل تعلن احترامها للدين - بينما هي تحكم بغير ما أنزل اللّه وتقصي شريعة اللّه عن الحياة وتحل ما حرم اللّه وتنشر تصورات وقيما مادية عن الحياة والأخلاق تدمر التصورات والقيم الإسلامية وتسلط جميع أجهزة التوجيه والإعلام لتدمير القيم الأخلاقية الإسلامية، وسحق التصورات والاتجاهات الدينية وتنفذ ما نصت عليه مؤتمرات المبشرين وبروتوكولات الصهيونيين، من ضرورة إخراج المرأة المسلمة إلى الشارع، وجعلها فتنة للمجتمع، باسم التطور والتحضر ومصلحة العمل والإنتاج بينما ملايين الأيدي العاملة في هذه البلاد متعطلة لا تجد الكفاف! وتيسر وسائل الانحلال وتدفع الجنسين إليها دفعا بالعمل والتوجيه .. كل ذلك وهي تزعم أنها مسلمة وأنها تحترم العقيدة! والناس يتوهمون أنهم يعيشون في مجتمع مسلم، وأنهم هم كذلك مسلمون! أليس الطيبون منهم يصلون ويصومون؟
أما أن تكون الحاكمية لله وحده أو تكون للأرباب المتفرقة، فهذا ما قد خدعتهم عنه الصليبية والصهيونية والتبشير والاستعمار والاستشراق وأجهزة الإعلام الموجهة وأفهمتهم أنه لا علاقة له بالدين. وأن المسلمين يمكن أن يكونوا مسلمين وفي دين اللّه بينما حياتهم كلها تقوم على تصورات وقيم وشرائع وقوانين ليست من هذا الدين! وإمعانا في الخداع والتضليل وإمعانا من الصهيونية العالمية والصليبية العالمية في التخفي، فإنها تثير حروبا مصطنعة -باردة أو ساخنة- وعداوات مصطنعة في شتى الصور، بينها وبين هذه الأنظمة والأوضاع التي أقامتها والتي تكفلها بالمساعدات المادية والأدبية، وتحرسها بالقوى الظاهرة والخفية، وتجعل أقلام مخابراتها في خدمتها وحراستها المباشرة! تثير هذه الحروب المصطنعة والعداوات المصطنعة، لتزيد من عمق الخدعة ولتبعد الشبهة عن العملاء، الذين يقومون لها بما عجزت هي عن إتمامه في خلال ثلاثة قرون أو تزيد من تدمير القيم والأخلاق وسحق العقائد والتصورات وتجريد المسلمين في هذه الرقعة العريضة من مصدر قوتهم الأول .. وهو قيام حياتهم على أساس دينهم وشريعتهم .. وتنفيذ المخططات الرهيبة التي تضمنتها بروتوكولات الصهيونيين ومؤتمرات المبشرين في غفلة من الرقباء والعيون! فإذا بقيت بقية في هذه الرقعة لم تجز عليها الخدعة ولم تستسلم للتخدير باسم الدين المزيف وباسم الأجهزة الدينية المسخرة لتحريف الكلم عن مواضعه ولوصف الكفر بأنه الإسلام والفسق والفجور والانحلال، بأنه تطور وتقدم وتجدد ..
إذا بقيت بقية كهذه سلطت عليها الحرب الساحقة الماحقة وصبت عليها التهم الكاذبة الفاجرة وسحقت سحقا، بينما وكالات الأنباء العالمية وأجهزة الإعلام العالمية خرساء صماء عمياء!!! ذلك بينما الطيبون السذج من المسلمين يحسبون أنها معركة شخصية، أو طائفية، لا علاقة لها بالمعركة المشبوبة مع هذا الدين ويروحون يشتغلون في سذاجة بلهاء - من تأخذه الحمية للدين منهم وللأخلاق - بالتنبيه إلى مخالفات صغيرة، وإلى منكرات صغيرة، ويحسبون أنهم أدوا واجبهم كاملا بهذه الصيحات الخافتة .. بينما الدين كله يسحق سحقا، ويدمر من أساسه وبينما سلطان الله يغتصبه المغتصبون، وبينما الطاغوت -الذي أمروا أن يكفروا به- هو الذي يحكم حياة الناس جملة وتفصيلا! إن اليهود الصهيونيين والنصارى الصليبيين يفركون أيديهم فرحا بنجاح الخطة وجواز الخدعة بعد ما يئسوا من هذا الدين أن يقضوا عليه مواجهة باسم الإلحاد، أو يحولوا الناس عنه باسم التبشير، فترة طويلة من الزمان .. إلا أن الأمل في الله أكبر والثقة في هذا الدين أعمق، وهم يمكرون واللّه خير الماكرين. وهو الذي يقول : ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ، وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ. فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ﴾ ..ـ ا هـ
5) ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾.
لقد واجه اليهود الإسلام بالعداء منذ اللحظة الأولى التي قامت فيها دولة الإسلام بالمدينة. وكادوا للأمة المسلمة منذ اليوم الأول الذي أصبحت فيه أمة. وتضمن القرآن الكريم من التقريرات والإشارات عن هذا العداء وهذا الكيد ما يكفي وحده لتصوير تلك الحرب المريرة التي شنها اليهود على الإسلام وعلى رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - وعلى الأمة المسلمة في تاريخها الطويل والتي لم تخب لحظة واحدة قرابة أربعة عشر قرنا، وما تزال حتى اللحظة يتسعر أوارها في أرجاء الأرض جميعا
لقد عقد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أول مقدمه إلى المدينة، معاهدة تعايش مع اليهود ودعاهم إلى الإسلام الذي يصدق ما بين أيديهم من التوراة .. ولكنهم لم يفوا بهذا العهد - شأنهم في هذا كشأنهم مع كل عهد قطعوه مع ربهم أو مع أنبيائهم من قبل، حتى قال اللّه فيهم : ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ. أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ؟ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾
ولقد أضمروا العداء للإسلام والمسلمين منذ اليوم الأول الذي جمع اللّه فيه الأوس والخزرج على الإسلام، فلم يعد لليهود في صفوفهم مدخل ولا مخرج، ومنذ اليوم الذي تحددت فيه قيادة الأمة المسلمة وأمسك بزمامها محمد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فلم تعد لليهود فرصة للتسلط! ولقد استخدموا كل الأسلحة والوسائل التي تفتقت عنها عبقرية المكر اليهودية، وأفادتها من قرون السبي في بابل، والعبودية في مصر، والذل في الدولة الرومانية. ومع أن الإسلام قد وسعهم بعد ما ضاقت بهم الملل والنحل على مدار التاريخ، فإنهم ردوا للإسلام جميله عليهم أقبح الكيد وألأم المكر منذ اليوم الأول.
ولقد ألبوا على الإسلام والمسلمين كل قوى الجزيرة العربية المشركة وراحوا يجمعون القبائل المتفرقة لحرب الجماعة المسلمة : ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا : هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً﴾
ولما غلبهم الإسلام بقوة الحق -يوم أن كان الناس مسلمين- استداروا يكيدون له بدس المفتريات في كتبه -لم يسلم من هذا الدس إلا كتاب اللّه الذي تكفل بحفظه سبحانه- ويكيدون له بالدس بين صفوف المسلمين، وإثارة الفتن عن طريق استخدام حديثي العهد بالإسلام ومن ليس لهم فيه فقه من مسلمة الأقطار. ويكيدون له بتأليب خصومه عليه في أنحاء الأرض .. حتى انتهى بهم المطاف أن يكونوا في العصر الأخير هم الذين يقودون المعركة مع الإسلام في كل شبر على وجه الأرض وهم الذين يستخدمون الصليبية والوثنية في هذه الحرب الشاملة، وهم الذين يقيمون الأوضاع ويصنعون الأبطال الذين يتسمون بأسماء المسلمين، ويشنونها حربا صليبية صهيونية على كل جذر من جذور هذا الدين! وصدق اللّه العظيم".
قال: "إن الذي ألب الأحزاب على الدولة المسلمة الناشئة في المدينة وجمع بين اليهود من بني قريظة وغيرهم وبين قريش في مكة، وبين القبائل الأخرى في الجزيرة .. يهودي ..
والذي ألب العوام، وجمع الشراذم، وأطلق الشائعات، في فتنة مقتل عثمان -رضي اللّه عنه- وما تلاها من النكبات .. يهودي ..
والذي قاد حملة الوضع والكذب في أحاديث رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وفي الروايات والسير .. يهودي ..
ثم إن الذي كان وراء إثارة النعرات القومية في دولة الخلافة الأخيرة ووراء الانقلابات التي ابتدأت بعزل الشريعة عن الحكم واستبدال «الدستور» بها في عهد السلطان عبد الحميد، ثم انتهت بإلغاء الخلافة جملة على يدي «البطل» أتاتورك .. يهودي.
وسائر ما تلا ذلك من الحرب المعلنة على طلائع البعث الإسلامي في كل مكان على وجه الأرض وراءه يهود! ثم لقد كان وراء النزعة المادية الإلحادية .. يهودي .. ووراء النّزعة الحيوانية الجنسية يهودي .. ووراء معظم النظريات الهدامة لكل المقدسات والضوابط يهود!
6) ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ﴾ "إن أهل الكتاب يعرفون أن هذا الكتاب حق من عند اللّه ويعرفون -من ثم- ما فيه من سلطان وقوة ومن خير وصلاح ومن طاقة دافعة للأمة التي تدين بالعقيدة التي جاء بها وبالأخلاق التي تنبثق منها وبالنظام الذي يقوم عليها. ويحسبون كل حساب لهذا الكتاب وأهله ويعلمون جيدا أن الأرض لا تسعهم وتسع أهل الدين! .. إنهم يعرفون ما فيه من حق، ويعرفون ما هم فيه من باطل .. ويعرفون أن الجاهلية التي صاروا إليها، وصارت إليها أوضاع قومهم وأخلاقهم وأنظمتهم، لا يمكن أن يهادنها هذا الدين، أو يبقي عليها .. وأنها -من ثم- معركة لا تهدأ حتى تجلو الجاهلية عن هذه الأرض، ويستعلي هذا الدين، ويكون الدين كله للّه .. أي أن يكون السلطان في الأرض كله للّه وأن يطارد المعتدون على سلطان اللّه في الأرض كلها. وبذلك وحده يكون الدين كله للّه.
إن أهل الكتاب يعلمون جيدا هذه الحقيقة في هذا الدين .. ويعرفونه بها كما يعرفون أبناءهم .. وهم جيلا بعد جيل يدرسون هذا الدين دراسة دقيقة عميقة وينقبون عن أسرار قوته وعن مداخله إلى النفوس ومساربه فيها ويبحثون بجد: كيف يستطيعون أن يفسدوا القوة الموجهة في هذا الدين؟ كيف يلقون بالريب والشكوك في قلوب أهله؟ كيف يحرفون الكلم فيه عن مواضعه؟ كيف يصدون أهله عن العلم الحقيقي به؟ كيف يحولونه من حركة دافعة تحطم الباطل والجاهلية وتسترد سلطان اللّه في الأرض وتطارد المعتدين على هذا السلطان، وتجعل الدين كله للّه .. إلى حركة ثقافية باردة، وإلى بحوث نظرية ميتة، وإلى جدل لاهوتي أو فقهي أو طائفي فارغ؟ كيف يفرغون مفهوماته في أوضاع وأنظمة وتصورات غريبة عنه مدمرة له، مع إيهام أهله أن عقيدتهم محترمة مصونة؟! كيف في النهاية يملأون فراغ العقيدة بتصورات أخرى ومفهومات أخرى واهتمامات أخرى، ليجهزوا على الجذور العاطفية الباقية من العقيدة الباهتة؟! إن أهل الكتاب يدرسون هذا الدين دراسة جادة عميقة فاحصة لا لأنهم يبحثون عن الحقيقة -كما يتوهم السذج من أهل هذا الدين!- ولا لينصفوا هذا الدين وأصله -كما يتصور بعض المخدوعين حينما يرون اعترافا من باحث أو مستشرق بجانب طيب في هذا الدين!- كلا! إنما هم يقومون بهذه الدراسة الجادة العميقة الفاحصة، لأنهم يبحثون عن مقتل لهذا الدين! لأنهم يبحثون عن منافذه ومساربه إلى الفطرة ليسدوها أو يميعوها! لأنهم يبحثون عن أسرار قوته ليقاوموه منها! لأنهم يريدون أن يعرفوا كيف يبني نفسه في النفوس ليبنوا على غراره التصورات المضادة التي يريدون ملء فراغ الناس بها! وهم من أجل هذه الأهداف والملابسات كلها يعرفونه كما يعرفون أبناءهم! ومن واجبنا نحن أن نعرف ذلك ..
وأن نعرف معه أننا نحن الأولى بأن نعرف ديننا كما نعرف أبناءنا! إن الواقع التاريخي من خلال أربعة عشر قرنا ينطق بحقيقة واحدة .. هي هذه الحقيقة التي يقررها القرآن الكريم في هذه الآية : ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ﴾ .. ولكن هذه الحقيقة تتضح في هذه الفترة وتتجلى بصورة خاصة .. إن البحوث التي تكتب عن الإسلام في هذه الفترة تصدر بمعدل كتاب كل أسبوع بلغة من اللغات الأجنبية .. وتنطق هذه البحوث بمدى معرفة أهل الكتاب بكل صغيرة وكبيرة عن طبيعة هذا الدين وتاريخه، ومصادر قوته، ووسائل مقاومته، وطرق إفساد توجيهه! ومعظمهم -بطبيعة الحال- لا يفصح عن نيته هذه فهم يعلمون أن الهجوم الصريح على هذا الدين كان يثير حماسة الدفاع والمقاومة وأن الحركات التي قامت لطرد الهجوم المسلح على هذا الدين -الممثل في الاستعمار- إنما كانت ترتكز على قاعدة من الوعي الديني أو على الأقل العاطفة الدينية وأن استمرار الهجوم على الإسلام -ولو في الصورة الفكرية- سيظل يثير حماسة الدفاع والمقاومة! لذلك يلجأ معظمهم إلى طريقة أخبث .. يلجأ إلى إزجاء الثناء لهذا الدين، حتى ينوم المشاعر المتوفزة، ويخدر الحماسة المتحفزة، وينال ثقة القارئ واطمئنانه .. ثم يضع السم في الكأس ويقدمها مترعة .. هذا الدين نعم عظيم .. ولكنه ينبغي أن يتطور بمفهوماته ويتطور كذلك بتنظيماته ليجاري الحضارة «الإنسانية» الحديثة! وينبغي ألا يقف موقف المعارضة للتطورات التي وقعت في أوضاع المجتمع، وفي أشكال الحكم، وفي قيم الأخلاق! وينبغي -في النهاية- أن يتمثل في صورة عقيدة في القلوب، ويدع الحياة الواقعية تنظمها نظريات وتجارب وأساليب الحضارة «الإنسانية» الحديثة! ويقف فقط ليبارك ما تقرره الأرباب الأرضية من هذه التجارب والأساليب .. وبذلك يظل دينا عظيما ..!!!
وفي أثناء عرض مواضع القوة والعمق في هذا الدين -وهي ظاهريا تبدو في صورة الإنصاف الخادع والثناء المخدر- يقصد المؤلف قومه من أهل الكتاب لينبههم إلى خطورة هذا الدين، وإلى أسرار قوته ويسير أمام الأجهزة المدمرة بهذا الضوء الكشاف، ليسددوا ضرباتهم على الهدف. وليعرفوا هذا الدين كما يعرفون أبناءهم! إن أسرار هذا القرآن ستظل تتكشف لأصحابه جديدة دائما كلما عاشوا في ظلاله وهم يخوضون معركة العقيدة ويتدبرون بوعي أحداث التاريخ ويطالعون بوعي أحداث الحاضر. ويرون بنور اللّه. الذي يكشف الحق، وينير الطريق ..
7) فهذا هو مسجد الضرار الذي أمر اللّه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ألا يقوم فيه، وأن يقوم في المسجد الأول -مسجد قباء- الذي أقيم على التقوى من أول يوم، والذي يضم رجالا يحبون أن يتطهروا. ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾.
هذا المسجد -مسجد الضرار- الذي اتخذ على عهد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مكيدة للإسلام والمسلمين، لا يراد به إلا الإضرار بالمسلمين، وإلا الكفر باللّه، وإلا ستر المتآمرين على الجماعة المسلمة، الكائدين لها في الظلام، وإلا التعاون مع أعداء هذا الدين على الكيد له تحت ستار الدين ..
هذا المسجد ما يزال يتخذ في صور شتى تلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها أعداء هذا الدين تتخذ في صورة نشاط ظاهره للإسلام وباطنه لسحق الإسلام، أو تشويهه وتمويهه وتمييعه! وتتخذ في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتتترس وراءها وهي ترمي هذا الدين! وتتخذ في صورة تشكيلات وتنظيمات وكتب وبحوث تتحدث عن الإسلام لتخدر القلقين الذين يرون الإسلام يذبح ويمحق، فتخدرهم هذه التشكيلات وتلك الكتب إلى أن الإسلام بخير لا خوف عليه ولا قلق!. وتتخذ في صور شتى كثيرة. اهـ
8) ﴿وكذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين﴾
"وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماءُ المسلمين، وهم من سلالات المسلمين. وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام. ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلاّ الله -بذلك المدلول- ولا الأوطان اليوم تَدين لله بمقتضى هذا المدلول. وهذا أشقّ ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام !
أشقّ ما تُعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلاّ الله، ومدلول الإسلام في جانب، وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر ..
أشقّ ما تُعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين، وطريق المشركين المجرمين، واختلاط الشارات والعناوين، والتباس الأسماء والصفات، والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق !
ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة، فيعكفون عليها توسيعاً وتمييعاً وتلبيساً وتخليطاً. حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام ! تهمة تكفير "المسلمين"!!! ويُصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألةً المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله!.
هذه هي المشقّة الكبرى وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بدّ أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل !
يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين .. ويجب ألاّ تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحقّ والفصل هوادة ولا مداهنة. وألاّ تأخذهم فيها خشية ولا خوف، وألاّ تُقْعِدُهم عنها لومة لائم، ولا صيحة صائح: انظروا ! إنهم يُكفِّرون المسلمين !
إن الإسلام ليس بهذا التميُّع الذي يظنّه المخدوعون! إن الإسلام بيِّن والكفر بيِّن .. الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله -بذلك المدلول- فمن لم يشهدها على هذا النحو، ومن لم يُقمها في الحياة على هذا النحو، فحكم الله ورسولِهِ فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين .. المجرمين .. ]وكذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين[
أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة، وأن تتمّ في نفوسهم هذه الاستبانة، كي تنطلق طاقاتهم كلُّها في سبيل الله لا تصدُّها شبهة، ولا يعوِّقها غَبَشٌ، ولا يميّعها لَبْسٌ. فإن طاقاتِهم لا تنطلق إلاّ إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم "المسلمون" وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدُّونهم ويصدُّون الناس عن سبيل الله هم "المجرمون" .
كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلاّ إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان. وأنهم وقومهم على مفرق الطريق، وأنهم على ملّة وقومهم على ملّة. وأنهم في دين وقومهم في دين: ﴿كذلك نفصِّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين﴾. [في ظلال القرآن: م 2- ص 1105].

ثانيا خطَّةُ العصرِ

(ثانيا) خطَّةُ العصرِ:
إنّ من درس كتاب الله وسُنّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم دراسة مُتأنّية واعية، ودرس التّاريخ الإسلامي، ودرس ما بذلهُ أعداءُ الإسلام على مدار التّاريخ من جُهُود، لعرقلة مسيرة الإسلام، تتجلّى لهُ حقيقتان كبيرتان.
(الحقيقة الأولى)
إنَّ أعداءَ الإسلام قد علمُوا أنَّهم عاجزُون عن أمرين، هُما:
(الأول) تغيير الأصلين، الكتاب والسنّة، والتصرُّف فيهما بزيادة أو نقصٍ. إنَّهم لا يجرؤُون على ذلك، لعلمهم بأنّها مُحاولةٌ فاشلة، لا تُحقِّقُ لهم أملهم، الذي هو تدمير الإسلام، والقضاءُ عليه. قال اللهُ تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)
(الثاني) إنكار مبادئ الإسلام الأساسيّة، التي تُميِّزُ أهلَ الإيمان من أهلِ الكُفرِ، وذلك لوضُوح أدلّتها، وكثرة وُرُودها في القُرآن والسُنّة. فهُم لا يقدرُون على إنكار أنّ المطلُوب من العبد هو: "أن يُؤمن بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر"، أو إنكار أنّ "الإيمان والكُفر ضدّان"، أوأنَّ "الجاهل لا يُعذرُ في أصْلِ الإيمان"، أو "أنَّ التّوحيدُ لفظٌ ومعنى"، أو أنَّ "التّوبة من الشرك شرطٌ للدُخُول في الإسلام"، أو أنَّ "منْ عرفَ الإيمانَ عرفَ الكُفرَ"، أو أنَّ "لكُلِّ طائفة مُمتنعة حُكمٌ شرعيٌّ"، أو أنْ "لا طاعة للحاكم والسيِّد الكافر"، أو غير ذلك من مبادئ الإسلام الأساسيّة.
(الحقيقة الثانية)
إنَّ خطّة التدمير من الداخل، التي يسيرُون عليها في هذا العصر، تقُومُ على قاعدتين:
(الأولى) الاعترافُ بالحقِّ، وتقرير صحّة المبدإ، لكسب ثقة طلَّاب الحقِّ.
(الثانية) سلبُ معناهُ بالتحريف والتعطيل، وإماتتُه عند تفسيره، ومعارضتُه بمبدإ يُناقضُهُ، ليُحيط به الغُمُوض من كُلِّ جانب، ويكُون عديم التأثير، فلا يصلُحُ لأن يكُون أساسا لمنهج حياة، ولا بيانا فاصلا بين أهلِ الإيمان وأهلِ الكُفر.
وقد نجحُوا في ذلك، نجحُوا في تفسير مبادِئ الدِّين تفسيرًا مُتناقضا، يهدمُ آخرهُ أولهُ، ويأخُذُ بشماله ما يُعطِيْ بيمينه، حتى صار العالم كالعامي لا يقدرُ على الفصلِ في مسألة عقدية، لملازمة النَّفي والإثبات لكُلِّ مسألة منها، كمن يقُولُ في كُلِّ مسألة (لا) و(نعم) في آنٍ واحدٍ.
فصار البابُ الوحيد المفتُوح لهم، أن يُقالَ في كُلِّ مسألة عقدية: "هذا واردٌ، وهذا واردٌ كذلك"، أو "هذا جائز عند الشيخ فلان، وليس بجائز عند فلان". وقد مرّ بك قول سيّد قطب رحمهُ الله: "ودسُّوا ولبسوا في التفسير القرآني حتى تركوه تيها لا يكاد الباحث يفيء فيه إلى معالم الطريق".
لقد صار مُنتهى علم العُلماء والدكاترة، الذين نجحت فيهم خطّة أعداء الدِّين تناقُضا وتلبيسا، وقد صار علمُهم في مسائل الدِّين الأساسيّة المُفرِّقة بين أهلِ الإيمان وأهلِ الكُفر، كما يأتي:
1) "الكُفرُ ضدُّ الإيمان ويُخرجُ من الملّة، وليس الكُفرُ بضدّ الإيمان ولا يُخرجُ من الملّة".
2) "النُّطقُ بالشهادتين يُبطلُهُ الشركُ الأكبرُ، والنُّطقُ بالشهادتين لا يُبطلُه شيءٌ".
3) "الشركُ الأكبرُ مُخرجٌ من الملّة، وليس الشركُ الأكبرُ بمُخرجٍ من الملّة".
4) "الإنسانُ يخرُجُ من الملّة بفعلِ الكُفر بدُون استحلال، والإنسانُ لا يُخرجُ من الملّة بفعلِ الكُفر بدُون استحلال".
5) "الحاكمُ بغير ما أنزل اللهُ كافرٌ بالله، وليس كافرًا بالله".
6) "التحاكمُ إلى غير شرعِ الله كُفرٌ أكبر ينقُضُ الإيمان، والتحاكمُ إلى غير شرعِ الله كبيرةٌ لا تنقُضُ الإيمان".
7) "الإنسانُ يخرُجُ من الملّة بموالاة الكُفار، والإنسانُ لا يَخرجُ من الملّة بموالاة الكُفار".
8) "الكافرُ المُنتسب إلى ملّة الإسلام كغير المُنتسب في الدنيا والآخرة، وهو كالمسلم في الدنيا والآخرة ".
9) "تكفيرُ من كفرهُ اللهُ حقٌّ، وتكفيرُ من كفرهُ اللهُ باطلٌ".
10) "العملُ بالديمقراطية والعلمانية كُفرٌ أكبر ينقُضُ الإيمان، وهو أمرٌ مشرُوعٌ ولا ينقُضُ الإيمان".
هكذا انتهت مواقف العُلماء والدكاترة من المبادئ الدينيّة الأساسيّة المُفرِّقة بين أهلِ الإيمان وأهلِ الكُفر. ومن أخطأ في فهمِ هذه المبادئ الأساسيّة، لا يُرجى منهُ أن يأتيَ بمنهج حيوي صحيح، أو أن يقف موقفا صحيحا في القضايا التي تحتاجُ إلى حسمٍ. لأنّ المبادئ التي تُحدِّدُ وتُصحِّحُ المناهج والمواقف، صارت غامضة مُتناقضة عنده.
خُذ لذلك مثلا، مسألة إظهار النُّطق بالشهادتين مع الشرك الأكبر، لقد كانت واضحة في السلف والأئمّة، لم يُروَ من اختلف فيه، وأجوبتهم واضحة غير مُعقَّدة، يقولون:
= إذا كان كافرا أصليا كاليهُود، فليس بمُسلم بالنُّطق بالشهادتين، حتى يتبرّأ مما خالف الإسلام.
= وإذا كان في الأصل مُسلما فقد ارتدَّ ويُستتاب.
هذا هو الجوابُ الصحيح لأهلِ الإيمان الصحيح، جوابٌ واضحٌ حاسم لا لُبس فيه.
أمّا أهلُ التلبيس والتناقُض، من العُلماء والدكاترة، فإنّهم إذا أرادُوا بيان حُكم إظهار النُّطق بالشهادتين مع الشرك الأكبر، يكُونُ جوابهم الأخير، بعد إطالة الكلام في "قيل وقال": "قد يكُونُ مُسلما، وقد يكُونُ كافرا مرتدا"، أو "بابُ التكفير عظيم، ولا نعدلُ بالسلامة شيئا".
سُئل شيخٌ منهم في مجلس مُناظرة، عمن يُصرُّ على الشركِ الأكبر، وهو يزعُمُ أنَّهُ مُسلمٌ؟. فأجاب: "ندعُوهُ إلى التَّوحيد!!". فقيل: "دعوناهُ ودعوناه فأصرّ على الشرك"، فقال: "نُكرِّرُ الدعوة!!". فقيل: "أرأيْتَ إن مات على ذلك؟."، فأجابَ: "يدخُلُ الجنّة بما معهُ من الإيمان!!".
وانظُرْ كذلك إلى مسألة "طاعة الحاكم الكافر"، فقد أجمع عُلماءُ الإسلام، أنّهُ لا طاعة لهُ، إذا كفر. وفي الصحيحين مرفُوعا: "إلا أن تروا كُفرًا بواحًا عندكم فيه من الله بُرهان". جوابٌ واضحٌ حاسمٌ. ثُمّ انظُرْ إلى أقوال دكاترة العصر، يقُولُون: "إنَّ الحاكم ربّما لا يعلمُ أنّ هذا كُفرٌ". أو "تكفير المُعيَّن لا يجُوزُ". أو "نُكفِّرُهُ بعد إقامة الحُجَّة".
ثُمّ يُظهرُون مسألة أخرى فيقُولُون: "إقامة الحجّة للقضاة ولأصحاب السُلطان، ونحنُ دُعاة لا قُضاة". فانظُرْ إلى هذا التيه!!، وإلى هذا الاضطراب الفكري!!، يُرادُ بيانُ حُكم الحاكم المُظهرِ للكُفرِ، فأُحيلت المسألةُ إلى الحاكم المُظهِر للكُفر ليفصل فيها!!. فهل يحلُّ أن يُنسب ذلك إلى دين الله!!، وهل هُناك تلبيسٌ فوق هذا التلبيس!!.
إنّ معنى ذلك هو: "اترُكُوا الحُكام يكفُرُون، ولا تخرُجُوا من طاعتهم!!"، وهذا هو التلبيس المطلُوب، حتى لا يكُون للمُسلم طريقٌ للتحرُّر من أهلِ الكُفر. وحتى يكُونَ الكُفرُ والإسلامُ كشيء واحد في عُرْفِ النّاس، وحتى يأمن اليهُودُ وأذنابهم من عودة الإسلام، وبناء منهج الحياة على مبادِئه.

جـ) الفصل الثالث العقيدة الاعتصامية

(الفصلُ الثالث): (العقيدة الاعتصامية)
لنأخُذ كمثال "منهج جماعة الاعتصام"، وهو كُتيبٌ صغير، فيه خُلاصة اعتقادات جماعة الاعتصام، والمنهج الديني الذي ارتضوهُ لأنفسهم. ومن درسهُ يجدهُ يقُومُ على تلك القاعدتين:
(الأولى) قاعدةُ الاعتراف بالحقِّ، وتقرير صحّة المبدإ، لكسب ثقة طلاّب الحقِّ.
(الثانية) سلبُ معناهُ بالتحريف والتعطيل، وإماتتُه في التفسير، واختلاقُ مبدإ يُناقضُهُ، ليُحيط به الغُمُوض من كُلِّ جانب، ويكُون عديم التأثير، فلا يصلُحُ لأن يكُون أساسا لمنهج حياة، وبيانا للتمييز بين أهل الإيمان وأهلِ الكُفر.
إنَّ واضعِي "العقيدة الاعتصامية" قد أقامُوها على هاتين القاعدتين، فصار لكُلِّ مسألة وجهان مُتضادّان مُتناسخان، يأتُون بالاعتراف والإقرار بالحقِّ، وعدم ردِّه بصراحة عند البيان النَّظري لمبادئ الدِّين، وأوليّات العقيدة، ثُمّ تعقيبه بتعطيل معناهُ، وإبطال دلالته بقواعد تُناقضُهُ، وتُزيلُ أثرهُ من القُلوب، بل تجعلهُ كالمعدُوم.
وأغلبُ الظنِّ أنّهم يرون -أو ترى غالبيتهم- أنَّ مذهبهم وما قرَّرُوهُ في "منهجهم" صحيحٌ، ولكنّهم في الحقيقة واقعُون في فخِّ أعداء الدِّين، قد صارُوا -لبساطتهم وسذاجتهم- من مُنفذِي "خطّة العصر" المُدمرةِ للدِّين من أساسه، خطّة تدمير الدِّين باسمِ الدِّين. وإليك بيانُ لما أصاب "مبادِئ الدِّين الأساسيّة"، من تحريف وتعطيل، بيد واضعِي "الاعتصامية":

مقدّمة

بسم الله الرحمن الرحيم
ردُّ التحريف عن مبادئ الدِّين الحنيف
مقدّمة:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلّى اللهُ على مُحمّد وعلى آله وصحبه وسلّم أجمعين. أمّا بعد:
فإنّ الله -عزّ وجلّ- قد تكفّل بحفظ الذكر فلا يُصيبُهُ تبديلٌ ولا تغييرٌ، وقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر:9).
فدلَّ ذلك على أنَّ العقيدة الإسلامية وغيرها مما قرَّرهُ الله في كتابه من مبادِئ وتوجيهات وأحكام محفوظة، لا يُصيبُهُ تبديلٌ ولا تغييرٌ. غير أنّ البشر همُ الذين يبتعدُون عن الكتاب المحفوظ فيَضلُّون تارة، ويفيئُون إليه فيهتدُون تارة أخرى.
ومن الحقائق التّاريخيّة أنّهُ قد ظهر في المجتمع الإسلامي في قُرُونه الأولى أفكارٌ مُنحرفة بين الإفراط والتفريط في مسائل الإيمان والصفات، والقدر والصحابة. وأنّهُ كان قد قامت على هذه الأفكار فرقٌ كثيرة، تزعُمُ كلُّ منها أنّها على الحقِّ، وكانت كُلُّ فرقة منها تتشعَّبُ إلى فرقٍ مُختلفة مُتنافرة. وكان أهلُ الحقِّ في أحيان كثيرة قلّة من الرجال، يُعاديهم أصحابُ السُلطان، و"علماء السُّوء"، والعامّة المسخّرة لهم، المنخدعُون بأقاويلهم المُضلّة. ولكنّ الحقَّ كان دائما يظهرُ، ويغلبُ الباطل في آخر الجولات، ولو بعد قرن أو قرُون.
إنّ الحقَّ أقوى من كُلِّ باطل، مهما انتفش وأظهر القوّة والزينة والعدد والعُدّة وظنّ ضُعفاءُ البصيرة أنّهُ لا يزُولُ ولا يبيد.
إنّ الحقَّ يستمدُّ سُلطانه من الله ﴿وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (التوبة:32).
وقد كان من الأفكار الجديدة والبدع المحدثة بدعةُ الإرجاء واعتقادُ أنّهُ "لا يضرُّ مع الإيمان ذنبٌ، والمُذنب كامل الإيمان ومصيرهُ الجنّة". فنشأ من ذلك الاستهانة بالذنُوب وتشجيع الفساق وتسويغ النِّفاق. وكان هذا الفكرُ كردِّ فعل لمذهب الخوارج الذي سبقه في الظهُور والذي كان تعظيم خُطُورة الذنب، والحُكم على صاحب الكبيرة بالردّة بمجرّد الفعل. وقد كان فكرُ الخوارج يعملُ في القرن الأول والثاني ثُمّ ضعُف وصار شُبه مُنقرض. أمّا فكرُ الإرجاء فقد كان ينتشرُ ويتطوّر حتى ظنّ غالبُ النّاس أنّه المذهب الحقّ، مذهب أهل السنّة والجماعة.
ولقد حذّر عُلماء السلف من الإرجاء في زمنهم، وشدّدُوا النكير عليه، ومما يُروى عنهم في ذمّ أهل البدع عامّة، والمرجئة خاصّة ما يأتي:
قال وكيع بن الجراح: "القدرية يقولون الأمر مستقبل وأن الله لم يقدّر الكتابة والأعمال، والمرجئة يقولون: "القول يجزئ من العمل". والجهمية يقولون: "المعرفة تُجزئ من القول والعمل، وهو كلُّه كفرٌ".
وقال سعيد بن جبير: "المرجئة يهودُ القبلة".
وقيل لسفيان الثوري: "أصلِّي خلف من يقول: الإيمان قول بلا عمل؟ فقال: "لا ولا كرامة".
وقال إبراهيم النخعيّ عن المرجئة: "لفتنتهم أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة. (والأزارقة فرقة من الخوارج). (نقلا من كتاب الإيمان، من فتاوى ابن تيمية).
والإرجاء الحديث ليس كالقديم، الذي قيل فيه ما تقدّم إنّهُ أعظمُ وأخطرُ من ذلك بكثير إنّهُ تخفيف الشرك الأكبر باعتقاد أنّهُ "لا يضرُّ مع الإيمان شركٌ أكبر، ولا يضرُّ مع النُّطق بالشهادتين شركٌ ظاهر".
ثُمّ جاء أهلُ الإرجاء الحديث بمذهب "التعطيل"، تعطيلُ أدلة أحكام النّاس وتحريف النُّصُوص عن مواضعها، لتُداهنَ المذهبَ الباطل حتى صار المُشركُ العابد لغير الله كالمسلم عندهم.
لقد عُرف في القديم مذهبُ "التعطيل" الذي جاءت به "الجهميّة" وغيرهم، وكان مقصُورا في الصفات حيثُ قالُوا عن الله عزَّ وجلَّ: "هو عليمٌ بلا علمٍ" و"قدير بلا قُدرة".. إلخ. وفسرُوا غضب الله بإرادة الانتقام، ومحبّتهُ بإرادة الثواب، فاستحقُّوا بذلك اسم "المُعطِّلة" أيْ: "مُعطّلة الصفات" أو "مُؤوّلة الصفات".
والتعطيلُ الحادث -اليوم- هو في باب أحكام النّاس ويقُومُ على اعوجاج في الفكر وقُصُور في الفهم يُوجبُ تجريد الصفّة من الموصُوف حتى يقال: "هذا شركٌ أكبر، وليس الفاعلُ بمُشرك" و"عبادة القبُور شركٌ أكبر وليس العبّادُ بمشركين" و"الديمقراطيّة كُفرٌ أكبر ومُعتنقوها مسلمُون" و"التشريعُ من دون الله كُفرٌ أكبر والمُشرِّعُون مُسلمُون" ..وهكذا. ولا ندرِي ما الّذي يحُولُ بينهم وبين القول بأنَّ: "اليهُوديةُ كُفرٌ وليس اليهُود بكُفار"، و"النصرانيةٌ كُفرٌ وليس النّصارى بكُفار" و"الزنا ذنبٌ وليس الزاني بمذنب"... إلخ.
والمقصُود من هذه الرسالة هو بيانُ هذا النّوع من الضلال وتصحيحُ المفاهيم المنحرفة، وردُّ الجهالات والتحريفات التي أدخلُوها في فهم مبادئ العقيدة الأساسيّة، والتي يُعتمدُ عليها في معرفة أحكام الناس إلى الكتاب والسنَّة (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (الأنفال:42).
وسمَّيتُ الرسالة بـ"ردّ التحريف عن مبادئ الدِّين الحنيف" وهي تتكوّنُ من ثلاثة فُصُول:
وفصلها (الأول) بيانٌ للمبادئ التي حُرِّفت عن مواضعها أو حاولُوا تحريفها
وعرضتُ البيانَ في صُورة سُؤال وجواب.
والفصلُ (الثاني) بيانٌ لخطّة أعداء الدين في تدمير الدين.
والفصلُ (الثالثُ) هو نقد لـ"منهج جماعة الاعتصام" وبيان ما دخلهُ من تعطيل وتناقض لتذكيرهم، وتحذير غيرهم منه.
(والحمدُ لله ربِّ العالمين، ولا حول ولا قُوّة إلا به) (17من المحرّم 1435هـ)


اخبر صديق

Kenana Soft For Web Devoloping